المحاضرة العاشرة: الأدب المقارن، الأدب العام
والأدب العالمي.
يقف الدارس
المقارن إزاء عدد من المفاهيم الملتبسة بموضوع المقارنة ومجال اشتغالها، وهي
مفاهيم تميزها بعض المرونة المكتسبة من تعدد اتجاهات الدرس المقارن ومناهجه.
الأدب المقارن والأدب العام: سبق لنا تعريف الأدب المقارن بأنه مجال بحث يعنى
بدراسة الظواهر الأدبية عبر الحدود القومية، سواء أكانت تلك الظواهر مسألة أدبية
أم فكرة أم شكلا أدبيا ما انتقل من أدب أمة إلى أدب أمة أخرى،
بل إن رواد المدرسة الأمريكية وسعوا مجال المقارنة ليشمل كل الظواهر الأدبية
المشتركة دون اشتراط وجود صلة تاريخية تثبت حدوث التأثر والتأثير.
لكن الأدب المقارن كثيرا ما اصطدم بضيق
الأفق إذ انحصرت موضوعاته في: "دراسة كاتب واحــد أو مُؤلَّف مــن المؤلفات
أو مسألة من المسائل أو فكرة من الأفكار، وقلّما يتجاوز الباحث في ذلك حدود أدبين
أو ثلاثة" ([1])،
مما جعل الدراسات المقارنة تسعــــــــــــــــــــــــى إلى الإحاطة بتلك الحقائق
الأدبية المشتركة في الآداب العالمية، والتي لا يمكن التأريخ لها وإجلاء جميع
ملامحها وامتداداتها في حدود أدبين أو ثلاثة فقط، لتلج الدراسة بذلك مجال بحث أوسع
هو ما يسمى (التاريخ العام للآداب) أو (الأدب العام) ([2]).
لقد عمل الباحث الفرنسي (فان تييغم) على
الفصل بين المصطلحين: الأدب العام والأدب المقارن، "فجعل الأدب المقارن مختصا
بدراسة المواجهة التاريخية الثنائية بين أديبين أو أدبين من هويتين مختلفتين، وجعل
الأدب العام مختصا بدراسة الظاهرة الأدبية الممتدة إلى أكثر من أدبين قوميين مثل
الحركات والتيارات والأفكار والأشكال الأدبية"([3])
ومن الأمثلة التي يقترحها منظرو الأدب العام مجالا للبحث في
هذا التخصص دراسة التيار الواقعي أو الرمــــــزي أو الرومانسي، أو فكرة الاغتراب
أو التشاؤم وامتداداتهـــــــــــــا في مجموع الآداب الفرنسية، الإيطالية ،
الألمانية، ... إلخ، "في نطاق وحدة ثقافية معينة" ([4])،
كوحدة الأدب الاوربي، العربي أو الآسيوي، سواء أكان أكان مبدأ التأثر والتاثير
ماثلا بينها أم غير ماثل.
الأدب العام من وجهة نظر سوسيولوجية:
سعى دعاة المدرسة الاشتراكية إقحام
القوانين الجدلية في تحديد مفهوم الأدب العام، فرأوا أن دراسة الظواهر الأدبية
الممتدة يجب أن تيم في ضوء التصورات الجدلية وحتميات الصراع الطبقي، باعتبار
الظاهرة الأدبية جزءًا من بنية فوقية تتحكم فيها البنية التحتية. فبعض الظواهر
الأدبية التي تحدث في الآداب المختلفة لا يمكن فهمها في إطار التأثيرات المتبادلة،
فالواقعية العربية مثلا كانت في جزء كبير منها نتاج حتمية اجتماعية واقتصادية ظروف
محلية، بينما كانت في شق محدود منها وافدة من الغرب، "وهكذا نرى كــــــــــــــــــــم
يمكن أن تكون مفيدة للمقارنين نتائج التعاون الوطيد مع أنصار المادية التاريخية،
على ألاّ يستخدم هؤلاء منهجهم لأخراض دعائية هابطة"([5])
فإذا كان تفسير بعض الظواهر الأدبية في ضوء
القوانين الجدلية ممكنا، فإن ظواهر أخرى لا تقبل هذا الطــــرح من
أساســـــــــــــه، ومن أمثلة ذلك (الاستعارات المبتذلة) التي بقيت تراثا وبُنًى
عقلية مكتسبة لم تمحُها أية تحولات اجتماعية، ومن أمثلتها ما ذكره كلود بيشوا وأندريه
م.روسو من ظواهر توارثها الكلاسيكيون عن العصور الوسطى واستمر توظيفهــــــــــــــــا
إلى اليوم، فطريقة المحاميــن التي يستخدمونها في أيامنا هذه خلال مرافعاتهم،
والتي تبدأ بمسكنة مؤثرة، يليها التوسُّل إلى قلوب القضاة،ثم الخاتمة المؤثرة، ما
هي في الحقيقــــــــــــــــــــــــــــــة إلاّ استعارة مبتذلة توارثوها عن
كبار البلغاء القدامى. وصورة الطفل الذي يحمل صفات الشيخ هي أيضا استعارة مبتذلة
موجودة عند شيشرون Ciceron،
وفرجيل Vergil،
كما توجد عند اليونان وعند الصينيين، وتفسيرها لا يستقيم في ضوء الطرح الجدلي بل
تصلح له نظرية (الشعور الجمعي) لكارل يونغ. ([6])
الأدب العام من منظور المدرسة
الأمريكية:
وقف المقارنون الأمريكيون موقفا مناقضا من
التمييز التاريخي بين الأدب العام والأدب المقارن، وأصروا على "توسيع مجال
الدرس الأدبي المقارن ليشمل كل شيء يتعلق بالظاهرة الأدبية في كُلِّيتها ووِحدتها
وشموليتها عبر الحواجز القومية"([7])،
فالتمييز بالنسبة إليهم مصطنع، بل يعمل على صرف نظر الدارس عن الظواهر النصية أو
البنيات الداخلية الجمالية للأدب، ومن ثم رأى هؤلاء أن كل الموضوعات المدرجة تحت
مصطلح (الأدب العام)، هي من صميم الدرس الأدبي المقارن سواء أتأسست على علاقات
نصية أم تاريخية. وكان أن بقي الفرنسيون إلى اليوم متمسكين بفكرة الفصل بين الأدب
العام والأدب المقارن، بينما يكتفي الأمريكيون بمصطلح واحد هو (الأدب المقارَن).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأدب
العالمي
يعد الأديب الألماني غوته (Johan
Wolfgang Von Goethe)، أول من بَشَّر بمفهوم (الأدب العالمي) أو
كما يسميه (Weltliterature)،
في نهاية العشرينيات من القرن 19، في وقت كان فيه أبيل فيلمان (Abel
Villemain) يحاضر حول علاقة الأدب الفرنسي بالآداب
الأوربية ممهِّدا الطريق لظهور الأدب المقارن كنوع جديد من الدراسات الأدبية. فقد
صرّح غوتـــــــــــه في بعض رسائله "أن عصر الآداب القومية قد ولّى، وأن أدب
عصر جديد قد بدأ"([8]).
فالثورة الصناعية التي جلبت معها وسائل الطباعة والنشر والاتصال قد صارت تبشّر
_حسب رأيه_ ببداية تجاوز الحدود القومية الضيقة للغات والآداب.
وغم كون المفهوم لم يبلغ درجة كافية من
الوضوح عند غوتـــــــه، إلا أنه دعـــا الأدبـــاء الأوربييـــــن عامـــــة
والألمـــان بشكل خـــــــاص إلى مسايرة روح العصر ومتطلباته بالتخلّـــــــــــــــــــي
عن مواضيعهم وأساليبهم الوطنية، وأن يتهيئوا لإنتاج أدب قادر على دخول المنافسة
العالمية التي سيكون البقاء فيها للإبداعات الأجوَد والأرقى والأكثر استجابة للذوق
العام العالمــــــــــــــي. فقد صارت أمام الأدب كل الفرص ليخرج خارج حدوده
القومية ويَلِجَ لغات ومجتمعات أخرى.
إن الأدب العالمي (Weltliterature) ليس "آدابا قومية وُضع بعضها على جوار بعض" ([9])،
وإنما هو نوع من التركيب لتراث البشرية الأدبي، عناصره الأساسية هي تلك الأعمال
الخالدة التي تصنع مجد الإنسانية، ولكن دون أن تفقد هويتها وخصوصيتها، وليس تركيبُ
العناصر كرصّ بعضها إلى جانب البعض الآخر.
ويعرف غنيمي هلال الأدب العالمي بقوله:
"خروج الأدب عن نطاق اللغة التي كتب بها إلى أدب لغة أخرى، إما بالإفادة منها وَوُرود مناهلها، وإما
بإمدادها بما يجعلها تغنى وتكمل في نواحيها الفنية وموضوعاتها"([10]).
أما غاية الأدب العالمي فهي إحصاء
وتفسير كل الأعمال الأدبية التي يتكون منها تراث الإنسانية، أو فلنقل: "كل ما
ينتمي إلى مجموع الأمم دون أن يفقد هويته كأدب لأمة بعينها"([11])
لقد كان المفهوم عند غوته ضربا من
الرُّؤية النقدية غير الواضحة فلم يَلقَ التِفاتة جادّة من الأدباء والدارسين نظرا
لتزامنـه مع الحروب التحررية ضد الغزو النابوليوني وتنامي النزعة القومية
(المغلقة) آنذاك.
موقف المدرسة التاريخية:
تزامن ظهور مصطلح الأدب العالمي مع
تبلور الدرس الأدبي المقارن في أووربا مع ما صاحبه من نزعة قومية حالت دون القَبول
بفكرة غوته، ولقي مشروعه وهو في المهد صدًّا من التاريخيين، كون هؤلاء يجدون
ضالتهم في الدراسات المقارنة التي تؤرخ للآداب القومية في ظل علاقاتها بالآداب
الأخرى، على أن تبقى هي الأصل والمنطلق الذي يتخذه الدارس مركزا لتلك الدائرة
الفيلولوجية التي تنتشر وفقها حركة التأثر والتأثير،وفق تصور التاريخيين . فهم
"لم يكونوا مستعدين للتعامل مع أية مسألة أدبية من منظور فوق _ قومي إلاّ إذا
كان لتلك المسألة علاقة بظاهرة التأثير والتأثر، وكانت دراستها مجدية من الناحية
التأريخية." ([12])
غير أن الفرنسيين قد درسوا ظاهرة وثيقة الصلة بالأدب العالمي هي تاأثير بعض
الأدباء في بلاد أجنبية وسُبُل بُلوغهم العالمية، كالترجمة والرحلات...، وبذلك
يكونون قد أخرجوا المقارنة من الحدود اللغوية والقومية، خروجا مشروطا ببقاء القومي
دوما هو الأصل والمنطلق في أية دراسة مقارنة.
موقف المدرسة الماركسية:
كان الاشتراكيون ينظرون إلى الأدب
العالمي من البداية نظرة مادية جدليّـــة، ويذكر أنّ أبوي الماركسيــة ماركس
وإنجلـز كانا أول من بشّر بذلك الأدب العالمي الحامل للقيم الاشتراكية والذي يلبي
غاياتها وطموحاتها. فبما أن الآداب تمر في تطورها بالمراحل نفسها، وتتحكم في
تطورها _حسبهم _ آلية واحدة هي آلية الصراع الجدلي ، فإن العالمية بدورها تصير
درجة متقدمة من التطور يمكن لأي أدب/أديب أن يبلغها إذا توافرت له بنية تحتية
تعضده، وهو موقف مخالف لما ذهب إليه التاريخيون من أن تطور الأدب وبلوغه درجة
العالمية مرهون بحدوث التأثر والتأثير. وإذا كان الطرح الاشتراكي قد استطاع تفسير
عديد الظواهر الأدبية، إلا أنه وجـــد نفســــه عاجــــزا عن تعليل ظاهرة تطور بعض
الآداب وبلوغها مستوى عالميا كبيرا كأدب أمريكا الجنوبية،رغم ضعف المستوى
الاجتماعي والاقتصادي للبلدان التي نشأت فيها، مما حدا بالماركسيين إلى البحث عن
تفسيرات أخرى لظاهرة العالمية، فهذا جيرمونسكي يرى أن "عمليات الاستيراد
الثقافي والأدبي التي أطلق عليها المقارنون التقليديون الفرنسيون تسمية ظواهر
التأثر والتأثير، تخضع لحاجة الطرف المستورِد أكثر مما تخضع لحاجات الطرف
المصدِّر"([13]) وهو
رأي يلتقي مع طروحات نظرية التلقي ويصلح لتفسير الظواهر التي لم تَحتَــــوِها
القوانين الجدلية، دون اللجوء إلى أوهام المركزية والهيمنة والغزو.
رأي المدرسة الأمريكية
(النقدية/النصية):
ركزت المدرسة النقدية على الأبعاد
الجمالية للآداب ولم تول اهتماما لظاهرتي التأثر والتأثير، فالظواهر الأدبية
الكبرى كالتيارات والأجناس والفنون الأدبية لها امتدادات عالمية متفاوتة، ولا
ينبغي حصرها في حدود اللغة والقومية.
إن تعريف الأدب العالمي بهذا الشكل قد
يحمل مغالطات كثيرة أهمها:
_
تجاوزه للطابع القومي المميز للآداب.
_
تجاوز حدود اللغة وما ينطوى عليه من إمكانية هيمنة أدب ما على الآداب الأخرى بفعل كثرة
انتشار لغته أو قوة بلده.
رينيه إتيامبل (René
Etiemble)
: كان من أكبر المعارضين للمركزية الأوربية، ودعا إلى انفتاح الأدب المقارن
والدراسات المقارنة على اللغات والآداب الشرقية، وأيد مفهوم (الأدب العالمي) خارج
نطاق التأثر والتأثير بحيث يكون انطلاق الدراسة من كل الآداب على قدم المساواة قصد
الوصول إلى شعرية المقارنة.
فان تييغم (Van
Tieghem):
ناقد فرنسي، نبه إلى أن أدباء كثيرين
حققـــوا نجاحـــا خارج بلدانهم دون أن يستحقــوه، وأن العديد من الآداب قد بلغت
درجة كبيـرة من التطور دون أن تلقى اهتماما وعناية من النقاد والمقارنين مما يدعو
إلى إعادة النظــر في معايير عالمية الأدب، فالانتشار لا يعني الجودة بالضرورة،
وليس النجاح المؤقت لكاتب ما مثل النجاح الدائم الذي يحق لصاحـــــــــــــبه أن
يوسم بالعالمية، ولذلك رفض قياس العالمية بمبدأ التأثر والتأثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire