المحاضرة التاسعة: مدارس
الأدب المقارن
3: المدرسة السلافية (الماركسية)، الرؤية
والمنهج:
تعد الدراسات
المقارنة عملا نقديا لا يميزه عن مجالات الدراسة الأدبية الأخرى سوى تركيزه على
فكرة المبادلات الشكلية والفكرية والروحية بين الآداب، وما يقتضيــــــــــــــــــــــــــــــــــه
ذلك من ازدواج مضمار البحث أو تعدده. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاختلاف في تحديد
ماهية النص ووظيفته سيؤدي بالضرورة إلى تعدد مناهج المقارنة بتعدد المنطلق. فقد
رأينا كيف أدت الرؤية التقنية للنص إلى تبني المقارنة للمنهج الشكلي، فنأت بنفسها
عن الخــــــــــــــــــــــوض في اعتبارات خارجية هي من صميم عمل المؤرخ لا
الأديب. غير أن مقابلة روادها للنقيض بالنقيض، جعلها تقـــــــــــــــــع بدورها
في نقائص كثيرة أهمها عدم التمييز الدقيق بين
مناهج ومفاهيم كل من الأدب المقارن والأدب العام، وإلغاؤها شبه الكلي للحدود القومية
والسياسية.
وسـط تجاذبات الرؤى النقدية تأسست مدرسة
ثالثة قدمت نفسها حلا وسطا لأوجه الخلاف تلك، وهي المدرسـة الماركسية
الروسيـــة أو السلافية التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين كاتجاه نقدي
متشبع بالفلسفة الماركسية ذات المنحى المادي الجدلي الذي يرى أن التطور التاريخي
ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج الصراع الطبقي السائد في المجتمعات البشرية،
فالمجتمع بنيتين: فوقية يمثلها الفكر والثقافة والأدب، وتحتية يمثلها الاقتصاد
والجوانب المادية في المجتمع، والبنية التحتية تتحكم في البنية الفوقية وتوجهها،
وبما أن الأدب جزء من البنية الفوقية، فإن دراسته يجب أن تمر عبر دراسة المجتمع
الذي نشأ فيه وتأثر بحركيته، وهو ما يعني مُناقضة الاتجاه الشكلي القائل بأن النص
بنية لغوية مكتفية بذاتها، ينمو ويتطور بفضل تفاعل العناصر الداخلية، أو ما يسمى
تفجير اللغة لذاتها بتطوير علاقاتها القائمة بين عناصرها البنيوية، ذلك الاتجاه
الذي أذاب كل الحدود اللغوية والقومية بين الآداب، وساوى بينها مُتخذا إنسانية
الموقف وأخلاقية النظرة مبررا لإلغاء التمايز بين الآداب.
لقد ظهر علم الأدب
الروسي السوفياتي على خلفية مدرسة (فيسيولوفسكي) للاقتبـاس، إذ ركز على المذهب
الوضـعي التاريخي في مجال الفولكلور المقارن، وسعى إلى توسيع دائرة المقارنة إلى
أبعد حد في إطار المواضيع والأفكار المتجولة، وكان ذلك النواة الأولى للمدرسة
الاشتراكية في الأدب المقارن. غير أن هذا الاتجاه الجديد لم يتبلور في شكل مدرسة
قائمة بأسسها ومبادئها كما هو الحـال في المدرستين: الفرنسية والأمريكيـــــــــــــــــــــــــــــــة،
بل تجسدت ملامحه العامة من خلال إنتاج مجموعة من النقاد جمعهم التصور المادي
الجدلي كمنطلق وخلفية إيديولوجية، يقول سعيد علوش: "لا توجد مدرسة سلافية،
بكل معاني الخصوصية والانسجام، بل يوجد إنتاج، يخضع لخلفيات فكرية وسوسيولوجية
معينة"
فبعد أن كان الأدب المقارن، طيلة
الفترة الممتدة من 1945 إلى 1955، رهين
المنظور السياسي الذي ضيق دائرته حتى كاد يقضي عليه، شهدت روسيا بسقوط الستالينية
ترسخ عقيدة التعايش السلمي، فأُنشئ أول فرع للأدب المقارن بمؤسسة الأدب الروسي
(دار بوشكين) سنة 1956، وعاد باب الحوار بين الأورباتين ليفتح من جديد في شكل
تقارب بين أدباء الشرق ونظرائهم الغربييين، فقد استشهد الفرنسي (رونيه إتيامبل)
بأقوال ماركس في ندوة بودابيست سنة 1962، وبيّن أن لا محال للعزلة الوطنية
والإقليمية، وأيّد (ن.إي. كونراد) في مهاجمته للمركزية الأوربية، وفي دعوته إلى
توسيع دائرة المقارنة زمانيا لتشمل عصور ما قبل النهضة، ومكانيا،
بإدراج حضارة الشرق والعالم كله في دائرة المقارنـــــــــــــــــــة، مع
الانفتاح على اللغات الأخرى كالعربية والصينية والإغريقية والسانسكريتية. يقول عز
الدين المناصرة: إنّ "الباحثين في الاتحاد السوفياتي اقترحوا توسيع الحدود
الزمانية والمساحية للأدب المقارن بالخروج عن حدود الآداب القومية ودراسة العلاقات
الدوليّــــــــــــــــــة من خلال عملية تطورها الثابتة" ([1])
أما جيرمونسكي (Girmounsky) فقد أكد خلال المؤتمر الخامس للجمعية العالمية للأدب المقارن
ببلغراد، عام 1967 "على أهمية التشابهات والاختلافات النمطية (التيبولوجية)،
خارج ضرورة المحاكاة أو التأثير الواعي"([2])،
مشددا على ضرورة التخلي عن تقاليد المدرسة الفرنسية. ومن هذه التوجهات الجديدة
تبلور تعريف المدرسة السلافية على أنها: "البحث عن الروابط المشتركة
والتفاعلات بين الآداب في تطورها التاريخي".
فقد دعا رواد ها إلى دراسة العلاقات بين
الآداب التي لا تجمع بينها صلات تاريخية، سعيا منهم إلى الكشف عن القوانين
الحتمية التي تحكم الظاهرة الأدبية، كما أصــــــــــــــــرّوا على دراسة خصوصية
الآداب القومية الروسية، وأهم ما نستنتجه من التحديد السابق:
1_ أن التأثير والتأثر عملية متبادلة
بين الأمم، ولا تصدر من جهة واحدة كما يدعي الفرنسيون.
2 _ أن كلا من المتأثر والمؤثر إيجابي
يفيد ويثري ثقافته أو ثقافة غيره.
3 _ الاعتراف بوجود خصوصيات قومية لا
يمكن إغفالها.
4 _ أن كل أدب أو ثقافة يعبر في فترة ما
عن مرحلة من مراحل التطور التاريخي، وما على الدارس إلا الحكم عليها بموضوعية،
وبمنظور الوضع الاجتماعي الذي أنتجها، فالثقافة التي تكون قوية مؤثرة في فترة
زمنية ما، قد تصير متأثرة في فترة أخرى وتدخل في مرحلة ضعف وتبعية.
لقد كان الإنجاز الأول للسلافيين إعادة
ربط النص بإطاره الخارجي (الاجتماعــــــــــــــــــــــــــــــي) في إطار أقل
اتساعا، هو إطار العلاقة الجدلية بين الأدب كجزء من البنية الفوقية، والمجتمع كجزء
من البنية تحتية، بغية الكشف عن القوانين الجدلية المتحكمة في تطور الظاهـرة
الأدبية، تلك القوانين التي تهــدف في النهاية إلى خدمة أهداف اشتراكية، وتسعى إلى
الوقوف بالدرس المقارن موقفا وَسَطاً بين تطرف الأمريكيين المتمثل في نفيهم التام
لسياق النص، وتطرف الفرنسيين الذين شددوا على فكرة التأثر والتأثير بُغية إثبات
التفوق والتبعية. فالماركسية ترفض فكرة المقابلات البنيوية، وتعتبرها "مقارنة
على مستوى فكري محدود، وهذا غالبا ما هو إلا مطابقات وتشابه سطحي، الشيء الذي يؤدي
إلى إثبات القرابة أو النسب الوهمي" ([3])،
مقابل التستر على الظواهر الخارجية (الاجتماعية خاصة) التي أوجدت ذلك النظام
النصي.
[1]) _ عز الدين المناصرة، مقدمة في نظرية المقارنة، ص 21.
[3])_ ميشال باربو (أستاذ بجامعة السوربون)، الأدب المقارن عند العرب،
المصطلح والمنهج، مجلة الملتقى الأول للمقارنين العرب حول الأدب المقارن عند
العرب، المصطلح والمنهج، جامعة عنابة، الجزائر، 1984، ص178.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire