المحاضرة الثانية: نشأة الدراسات
المقارنة وتطورها:
قبل الحديث عن
نشأة الأدب المقارن، تجدر الإشارة إلى أن مظاهر التأثر والتأثير الأولى التي كانت
محل اهتمــــــــــام طليعة المقارنين ضاربة في القِدم، "ففي عام 146 ق- م
انهزمت اليونان أمام روما، ولكنها ما لبثت جعلتها تابعة لها ثقافيا وأدبيا فحاكى
أدباء الرومـان اليونانيين وكتابهم وفلاسفتهم ولم يكن للأدب اللاتيني من أصالة
تذكر يستقل بها عن الأدب اليوناني" ([1])
وقد شكلت
هذه التبعية الفكرية والأدبية النواة الأولى لنظرية المحاكاة التي ظهرت في عصـر
النهضـــــــــة الأوروبيـة إذا ارتفعت دعـــــــــــــــــــــــوات إلى محاكاة
الأدباء اللاتينيين للأدب اليوناني والاحتداء به لتحقيق النهضة الأدبية المنشودة
وهذا معنى آخر غير محاكاة الفن للطبيعة الذي قال به أرسطو فالمحاكاة التي دعا
إليها نقاد عصر النهضة هي نظرية تمتد بجذورها إلى هوراس Horace (85- 8 ق م) الذي دعا في كتابه
" فن الشعـر" إلى دراسة أمثلة الإغريق ومحاكاتها، وإلى كانتيليان Quantillian (35 – 96 م) الذي شـرح النظرية وصــــــــاغ لها مجموعــــــــــــــة من
القواعــــد، أولاها أن محاكاة اليونانيين مبدأ لا غنى عنه لكل أديب روماني،
والثانية أن المحاكاة تتطلب موهبة خاصة، والثالثة أن المحاكاة تكون لجوهر موضوع
الأدب ومنهجه لا لكلماته ولغته، والرابعة أن تتوفر في الأديب قوة التمييز ليختار
الجيد الذي يستحق أن يحاكى، أما الخامسة فهي أن المحاكاة وحدها غير كافية فيجب ألاّ
تؤدي على إغلاق باب الإبــــــــداع في الأديب أو إلى القضاء على أصالته([2]) وتؤرخ بعض المراجع لصلات أدبية أخرى
ضاربة في القدم منها عناصر مصرية (فرعونية) في المسرح الإغريقي، وتأثير
الأدب العربي في الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا، وتفاعل اللغة العربيـة قبل ذلك
باللغات الفارسية والسريانية وغيرها ([3]) مما أثمر إفـادة الأدب العربي من الفلسفة
اليونانية ومن الأدبين الفارسي والهندي سواء بترجمة أعمال فنية ككليلة ودمنة أو
باحتضان أبعاد فكرية وفلسفية وخيالية وافدة.
نشأة الدراسات المقارنة:
يتفق الدارسون على أن نشأة الأدب المقارن كانت
في أوربا، وبها اكتمل تأسيسه كعلم مستقل بأدواته وإجراءاته ومجال بحثه.
هذا، وقد كان القرن الثامن عشر مهدا لأول محاولات المقارنة نتيجة لعوامل عدة نذكر
منها:
1_ تيار
العالمية:
شهدت أوربا منذ العصور الوسطى 1395 – 1453 توافر بعض القواسم المشتركة،
التي وحّـدت الآداب الأوروبية في بعض اتجاهاتها، مما أسهم في ربط صـلات وثيقة بين
الأمم الأوربية، فتحت آفاقا كبيرة لظهور توجه قوي نحو
العالمية، أو ما يسمى بالكوزموبوليتية (Cosmopolitisme)([4]) التي تنافي فكرة التعالي
في الأدب أو الاعتداد المبالـغ فيه بالآداب القوميـة على حساب الآداب الأخرى، فقد اِستهوى هذا التوجه الجديد كُتابا كثيرين منهم فيلمان
(Abel Villemain)،
أمبير (Jean Jack Ampère)
وإدغار كوينيه (E.Quinet)،
الذين اكتسبوا كثيرا من الانفتاح بفضل سعة أسفارهم واطلاعهـــــــــــــــــــــــــــــــم
على آداب أقطار شتى، وفولتير(Voltaire)، وروسو (Rousseau)، وديدرو (Diderot)...إلخ، مما فسح المجال لقيام
نقاشات مثمرة في بعض الفضاءات الأدبية مثل نادي كوبيه (Coppet)، وأسس جسرا
جديدا تلاقت عَبرَهُ الثقافات والآداب الأوروبية المختلفة، واتسع نطاق التأثر
والتأثير بينها. وتَجَلَّت تلك القواسم المشتركة في ثلاثة مظاهر هي: ([5])
1_ وحدة الدين المسيحي واللغة اللاتينية في العصور
الوسطى، فقد اشتركت أورربا كلها في تلك الحقبة بميزتين هما:
_ وحدة اللغة
اللاتينية التي كانت مصدر إلهام للأدباء القروسطيين، وحلقة الوصل التي تربطهم
بالدين المسيحي وبالماضي الإغريقي اليوناني العتيق.
_ سيطرة الكنيسة: إذ
بسطت يدها على كل مناحي الحياة السياسية والفكرية، فكان من رجال الدين الكتاب
والأدباء، وتغلغلت الروح المسيحية في الإنتاج الأدبي وفي اللغة اللاتينية التي
صارت لغة العلم والدين معًا، فكان هذا التوجيه الديني سمة توحدت بها الآداب
الأوربية وتقاربت بشكل جعلها صالحة للدراسات المقارنة.
· الفروسية: سادت المجتمع الإقطاعي في
أوروبا إلى غاية ظهور الثورة الصناعية، واشترك الأدباء الأوربيون في التغني بها،
لتكون مظهرا آخر للتأثر والتأثر في تلك الفترة.
2- التيار الإنساني الذي صاحب عصر النهضة (بداية ق16):
كانت الحركة الإنسانيـة أبرز حركة فكرية في عصر النهضة. مزجت هذه الحركة الاهتمام بتاريخ البشر وأفعالهم
بالاهتمامات الدينية. وكان الإنسانيون هم العلماء والفنّانون الذين درسوا موضوعات
اعتقدوا أنها تساعدهــــــــــــــــم على فهم القضايا الإنسانية بشكل أفضل. وقد اشتملت هذه
الموضوعات على الآداب والفلسفة. وشارك الإنسانيون في وجهة النظر التي تقـــــــــــول
إن حضارتي اليونان والرومان القديمتين كانتا متفوقتين في موضوعات كهذه، وبالتالي تصلحان لأن
تكونا نموذجين يحتذى بهما. كما اعتقـــــــــــــــــــدوا أن على الناس أن يتفهموا العصور
الكلاسيكية القديمة ويقدروها حق قدرها كي يتعلموا كيف يوجهون حياتهم، فراحوا يبحثون عن
ذلك التراث القديم ويتدارسونه متخذين منه قدوة. وبذلك فتحت أوربا
أعينها على الآداب اليونانية واللاتينية وأظهرت ولعًا كبيرا بما حملته من أبعاد
إنسانية، فعادت نظريّــــــــــــــــــــــــــــــــــة المحاكاة إلى الظهور،
ووجد الأوربيون في محاكاة الآداب القديمة سبيلا للتخلص من أدب العصور الوسطى ومن
سيطرة الروح الدينية، كما كان لهذا التوجه الفضل في ميلاد المدرسة الكلاسيكية.
3 _ تيار الفلسفة وأوربا الفرنسية في القرن 18:
كان المناخ
الثقافي الذي ساد في فرنسا إبان العصر الكلاسيكي،
مواتيا لممارسة البحث الأدبي المعمق، خاصة وأن فرنسـا قد تعاقب عليها حكام اهتموا
بالعلم والثقافة، وعملوا على جعل فرنسا مركز إشعاع ثقافي في أوروبا كلها.
4_ ظاهرة التأثر
والتأثير:
إن الحديث عن
ميلاد الأدب المقارن يستدعي الوقوف عند ظاهرة أدبية ما كان ليوجد بدونها،
باعتبارها موضع تنقيبه الوحيد، والغاية التي ينشد إثباتها بالدليل النصي حينا والتاريخي
حينا آخر، وهي ظاهرة "التأثر والتأثير"، أو تجاوز الحدود القومية الضيقـــــــــــــــــــــــــــــة
إلى فضاء الأبعاد العالمية، وتحفظ الذاكرة الأدبية أقدم صورة لتأثر أدب بأدب آخر
وأكبرها من حيث حجم النتائج المترتبة عنها، " ففي عام 146 ق - م انهزمت اليونان
أمام روما، ولكنها ما لبثت أن جعلتها تابعة لها ثقافيا وأدبيا، فحاكى أدباء
الرومان اليونانيين وكتابهم وفلاسفتهم، ولم يكن للأدب اللاتيني من أصالة تذكر
يستقل بها عن تأثير الأدب اليوناني" ([6])،
فلم يكن تفوق روما عسكريا لينسحب على موقعها في المجال الأدبي، فللأدب قوانينه
الخاصة التي يصنع بها قوّته وقدرته على البقاء، وعلى بلوغ صفة العالمية إما بمـا
فيــــــــــــــــه من مظاهـر الخلق والإبـداع
أو من "العناصر النشيطة المختلفة التي تتيح لعمل واحد بعينه أن يتمتع
بحاضر خالد يتفاوت في درجة ازدهاره" ([7])
.
وقد عُدَّت ظاهرة تأثير الأدب اليوناني في نظيره اللاتيني
النواة الأولى التي انبثقت منها نظرية المحاكاة عند النقاد اللاتينيين، وهي
النظرية التي راجت في عصر النهضة وكانت الأساس الذي قامت عليه أركان المدرسة
الكلاسيكية فيما بعد.
صارت نظرية
المحاكاة التي كانت بداية الدعوة إليها مع الناقد الروماني (هوراس)([8]) قبل
أن يتولى مواطنه (كانتيليان) شرحها،
محل بحث وتدارس مستفيضين في هذه الفترة، ومن أبرز
الاجتهادات في هذا الشأن ما قدّمه شعراء "جماعة البلياد"([9]) أو "جماعة الثريا"، " وهم سبعة
من الشعراء اتفقوا على الترويج لنشر الثقافيتين، اليونانية والرومانية واتخاذهما
وسيلة لإثراء اللغة الفرنسية"([10]) ومنهم
(رونسار)، ( ريمي بلو)، (دورا) و(جواكيم دوبلاي De Bellay) الذي لخص
منهجهـــــــــــــــــــا في كتابه " الدفاع عن اللغة الفرنسية والسمو
بها".
ويعتقد
النقاد أن الدروس التي كان الشاعر الناقد " دورا " ( 1508 – 1588 م)
يلقيها على تلاميذه حول نظرية المحاكاة هي أقدم ما عرف من الدراسات المقارنة
المثمرة، وإن لم تبلغ درجة النضج([11])
، إذ دأب على توضيح كيفية استعادة اللغة اللاتينية لقوتها ولمنابع الإلهام فيها
بفضل اتصالها بالأدب اليوناني، وكيف تمكن
الأدب الإيطالي بعد ذلك من النهوض في عصر النهضة بفضل احتكاكه بالأدبيـن اليوناني
واللاتيني، فكان المثال الحي الذي احتذاها الفرنسيون في دعوتهم إلى المحاكاة. فهذا
دوبلاي (De Bellay) يؤكد على أن الفرنسية لا
يمكنها التألق والسموّ ما لم يُحاكِ أهلُها اليونانيين، ودعا الأدبــــــــــــــــــــــــــــــاء
إلى الاطلاع على النصوص الأدبية القديمة بأنفسهم كما وردت بلغتها الأصلية وهضمها
جيدا قبل التأثر بها والإفادة منها في كتاباتهم، وألاَّ يعتمدوا على الترجمة،
لأنها في حقيقتها خيانة للأصل، إذ لا يمكنها أن تنقل صور الجمال والإبداع في اللغة
بوفاء وأمانـــــــــــــــــــة ([12]).
ومن هنا جاء القول بضرورة اطلاع الأديب على اللغة التي يجد فيها مصدر إلهامه قبـــــــــــــــل
أن يسعى إلى محاكاة الأدب المكتوب بها، حتى يتمكن من محاكاة النصوص في صورها
الأصلية دون أن تفقد عناصر الخلق والإبداع بفعل الترجمة. فالمحاكاة بهذا المفهوم
تعني تجاوز الحدود القومية، للبحث عن النماذج الجيدة في آداب لغات أخرى، وبالأخص
اليوناني والروماني، واتخاذ ذلك المسعى سبيلا لخدمة اللغة القومية وإثرائها.
والمحاكاة
بهذا المفهوم ليست تقليدًا مباشرا ولا تنصُّلاً من مقومات الأصالة، وإنما هي
" محاكاة خلاَّقة " ([13]) يختص
بها الموهوبون المتمرّسون من الأدباء، القادرون على مطالعة آداب غيرهم في لغاتها
الأصلية وتَمَثُّل ما فيها من ملامح الإبداع، ثم انتقاء ما يلائم عصرهم منها
ليحاكوه مُضفين عليه بصماتهم وطابعهم الأصيل.
وفي القرنين
السابع عشر والثامن عشر امتد تأثير نظرية المحاكاة إلى النقد الأدبي فاتجـه
الكلاسيكيون إلى "التقنين في الأدب، أي إلى النقد الفني العلمي" ([14])،
واتخـــــــــــــــــــــــــــــــــذوا من الآداب القديمة مثالا يُحتدى به وتقاس
به جودة الإنتاج الأدبي، فوضعوا لكل جنس أدبي قواعد مستوحاة من الآداب القديمة،
بينما بقي نقدهم بعيدا عن المفهوم الحديث للمقارنة فلم يبحث في قضايا التأثر
والتأثير ولا في تاريخ الأدب، "بل أن أكثر مؤرخي الأدب حتى نهاية القرن
الثامن عشر لم يتجاوزوا سرد حياة المؤلفين، وعرض نصوص من مؤلفاتهم" ([15]) ،
وقلما حدث معهم أن أجروا موازنات بين آداب قومية مختلفة، وهذا بالرغم من ظهور
عوامل قادرة على الإسهام في ميلاد دراسات مقارنة وعلى رأسها توثق الصلات بين
الآداب الأوربية أكثر من ذي قبل وتوسُّع حركة الترجمة والرحلات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[3]) – ينظر: عصام بهي، طلائع المقارنة
في الأدب العربي الحديث، ط1، دار النشر للجامعات، القاهرة، ط1، 1996، ص:11.
[4] )_ كوزموبوليتية: مصدر صناعي يطلق للدلالة على المذاهب
الفلسفية والأخلاقية والسياسية وغيرها. في المعنى العام هو مذهب يعتنقه من يتجاوز
حدود الأمة القوم والشعب ويدعو إلى المواطنة العالمية، قال شاتوبريان: "ليس
الأسلوب كوزموبوليتيا كالفكر، لأن له أرض نشأة وسماء وشمسا خاصة به"
[9] )_ بلياد (La Pléiade) أو الثريا: بنات (أطلس) السبع، من حورية البحر (Pléon) اللائي مُسِِخن نجوما، و(أطلس) في الميثولوجيا اليونانية: أحد
العمالقة الذين حاربوا الآلهة. حكم عليه سيد الآلهة عندهم (zéus) بأن يحمل قبة السماء على كتفيه. وبلياد: سبعة من شعراء اليونان
قديما عاشوا في القرن الثالث ق م، وسبعة من
شعراء القرن 16م الفرنسييين أسسوا جماعة بهذا الاسم سنة 1549، بزعامة بيار دي
رونسار Pierre
Ronsard، وهم:
Joachim Du Bellay , Etienne Jodelle , Pontus
de tyard (بونتس)
Jean-Bastier
de la Péruse, Jean Dora. Rémy Belleau, Jean Antoine de Baïf,
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire