mercredi 2 octobre 2019

الأدب المقارن في القرن التاسع عشر



المحاضرة الثالثة: الأدب المقارن في القرن التاسع عشر:
       شهد القرن التاسع عشر تطورًا غير مسبوق في جميع نواحي الحياة الأوربية، حيث تسارعت وتيرة التطور العلمي ونشطت حركة الترجمة، مما أسهم في مدّ جسور التواصل بين الدول الأوربية، واتجه العلماء والأدباء على دراسة جميع الظواهر العلمية والأدبية، بينما تخلل النشاطَ الأدبيَّ ميلادُ مذهب جديد هو الرومانسية التي صادف نشأتَها بروزُ دعائم الأصالة الوطنية المذكورة آنفا (الدين واللغة والفروسية) وتنامي العلاقات الأدبية  والشعور بالكوزموبوليتية في أوربا. وقد اعتبر المذهب الجديد إلى جانب النهضة العلمية أبرز العوامل التي أثرت  في نشأة الأدب المقارن.
5_ الحركــة الرومانتيكيــة:
تطور الاتجاه الرومانسي في الأدب حتى أصبح اتجاها إنسانيا شاملا يهتم بالتجربة الإنسانية. وتعد هذه الحركة تيارًا مرتبطا بالحداثة، وبتحرر الإنسان من قيود القواعد الكلاسيكية الثابتة، بل هي الممهّد لكل المذاهب الأدبية الجديدة. فقد حملت الرومانسيـــــــــــــــــــــة في طياتها دعوة صريحة إلى إعادة الاعتبار للغات والآداب القومية، بما تحملــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه من خصوصيات مُمَيِّـزة، صارت تعبر من أدب أوروبي إلى آخر ومن لغة إلى أخرى، مما فتح أمام النقاد مجالا للمقارنة وتتبع مظاهر التأثر والتأثير. ويربط (فرونسوا غويار) نشأة الأدب المقـارن وحاجـة الفرنسيين للتلفت نحـو الخارج بقوله: "لأن العصر الرومانطيقي، في فرنسا، هو الأكثر إلحاحا لهذه الحاجة، كان هو الذي شهد ولادة الأدب المقارن، وكان البدء مع سانت بوف الذي تبناها من جاك أمبير الذي وضع دروسا لتلامذته تحت عنوان ((تاريخ في الأداب المقارن)). وكان الأدب المقارن، يومها، في بداياته، وعيا، للكوزموبوليتية([1]) الأدبية، مع توق إلى دراسة هذه الأخيرة تاريخيا."([2])
نشأت فـي إنجلتـرا على يـد ووردزورث (Word Sworth) (1770 – 1850)، وكولريدج (Coleridge)، (1772 – 1834)، ثم انتشرت في ألمانيا ففرنسا فإسبانيا ثم إيطاليا.
     أهـــم مبادئــها:
1_ العاطفة بدل العقل:
فقد قابل الرومانسيون القواعد الكلاسيكية الصارمة ونزعتها العقلية بتوجيه الشعر نحو نقل الإحساسات المرهفة التي ترتبط بالمشاعـر الفطريـة للإنسـان. يقول (الفريد دي موسيه A.de Musset) : " أول مسألة لي هي ألاّ ألقي بَالاً إلى العقل" ([3])، كما عُني كولردج بشيء آخر هو الخيال في نقده وإبداعه، وبالوحدة العضوية التي تعني عنده أن ينمو النص بطريقة شبيهه بعملية النمو العضوي أو البيولوجي.
والمقصود بالعقل هنا هو العقل الذي دعا الكلاسيكيون إلى الاحتكام إليه في إبداعهم ومحاكاتهم، فلا يكتب الأديب إلا ما يراه موافقا للمنطق وما يراعي الشعور الجماعي والأفكار المشتركة والأحاسيس الراقية التي تترفع بالإنسان عن الرغبات الفردية (الوضيعة)، ولذلك نجدهم يستندون إلى فلسفة أرسطـو التي التقت فيما بعـد بآراء ديكارت و"نزعته العقليـــــــــــــة "، وإن كان الفرق بين مبادئ الكلاسيكية وفلسفة ديكارت كبيرا، "إذ اتخذ الكلاسيكيون من العقل وسيلة لتبرير القواعد المقررة، ولم يسلكوا في نقدهم مسلك (ديكارت) في منهجـــــــــــه في الشك في رغبته في القضاء على الأفكار السابقة الموروثة قبل بناء الفكرة الجديدة"([4]) ، ومن هنـــــــــــا لم يكن استناد الكلاسيكيين إلى العقل في صورته المتحررة المبدعة وإنما بعقل فرضوا عليه الالتزام بالفكر الموروث والقوالب القديمة، لذا عارض الرومانسيون العقل بالذوق الفردي وبالخيال كما عارضوا الشعور الجماعي بالذاتية والأحاسيس الفردية.
       ولا يخفى ما لهذا التوجه من أثر في إعادة الاعتبار لخصوصيات الآداب القومية وتمييزها، لتنجلي الأذواق الخاصة وصور الإبداع والجمال العابرة بين الآداب واللغات المحلية الأوروبية التي أعيد إليها الاعتبار، وفي ذلك مجال خصب لقيام الدراسات المقارنة التي ستجلي مظاهر التأثر والتأثير، وتؤرخ للظواهر الأدبية بالبحث في أصولها وامتداداتها.
2_ الجمال مقابل الحقيقة:
نشد الكلاسيكيون الحقيقة، وتغنّوا بها انطلاقا من نزعتهم العقلية، واعتبروها أسمى ما يسعى الأدب إلى نقله وتصويره، يقول الشاعر الفرنسي بوالو Boileau : "لا شيء أجمل من الحقيـقة، وهي وحدها يجب أن تحب...حيث لا ينتقل إنسان من طبقة إلى طبقة دونها " ([5]) ، وليست تلك الحقيقة سوى مجموعة النظم الاجتماعية  والشعور الجماعي السائد، والطبقية خير مثال عن ذلك النظام الذي تواضع عليه المجتمع الأرستقراطي فلم يكن يرى الجمال إلا فيما أذعن لقوانينه والتزم بتصنيفاته.  
لقد اعتبروا الجمال انعكاسا للحقيقة أو ما سموه " الذوق السليم"، أو " الشعور الجماعي" الذي لم يترك مجالاً لبروز الأذواق الفردية فغدا مفهوم الجمال عندهم محصورًا في قوالب ثابتة وضعها المجتمع.
ودعا الكلاسيكيون إلى كبح الخيال وإذعانه لسلطة العقل، فأفل الشعر الغنائـــــــــــــــــــي ولم يستعد نبض الحياة إلا مع ظهور تيار الرومانسية الحالمة التي أوجدت لكل المعايير الكلاسيكية ما يقابلها ويحرّر الأدب من سطوتها، فقابلوا مبدأ الحقيقة بالجمــــــــــــال الذي ردوه إلى الذوق الفردي الذاتي المتميّز بدل الذوق العام. إذ يذهب الشاعر Shelly (1792 – 1822) في كتابه (الذَّودُ عن الشـعـــــــــــــر) أو (A défense of poetry) إلى أن الحقيقة هي التي يتوصل إليها الشاعر عن طريق الخيال لا العقل الذي يستند إليه الفلاسفة عادة. فالجمال هو ما يهتدي إليه قلب الشاعر وخياله، بغض الطرف عن القيم والمعايير العامة التي يعتدُّ بها الكلاسيكيون.
3- الغاية الوجدانيـة بدل الخُلُقيـة:
اتجه الكلاسيكيون بأدبهم وجهة خلقية تماشيا مع نشدانهم للحقيقة العامة ( المتواضع عليها)، فغدا الشعر بما فيــه من إفادة تُرافق الإمتاع، واعتبر الأدب جيدا إذا كان " الحق ينتصر فيه على الباطل، ثم أن الخير والشر مقدّران فيه تقديرًا دقيقا، وفيه لا يرتفع وضيـــــــــــــــع إلى مكانة رفيعة، فإذا قام صراع بين العاطفة والواجب انتصر الواجب لأن الإدارة يجب أن تسود جميع العواطف" ([6])
وحتى إن ظهرت العاطفة قوية في بعض المسرحيات الكلاسيكية، فإنّ ظهورها يكون هادفا إلى كشف تَبِعاتها وما تحدثه من ضرر للإنسان، فالعاطفة عندهم شر وضعف إما أن يحجبه الأديب أو يظهره لكشف عيوبه ومساوئه.
       وفي مقابل هذا التوجه جاءت الرومانسية ثورة على سلطة المجتمع وتقاليده في وقت صار الأدب تعبيرا عن الثورة ومصالح الفرد أو آمال الطبقة الوسطى، إذ ضاق الأدباء ذرعا بسلطة الحق والواجب والأخلاق، فتجاوزوها فاسِحين المجال لتفجر العاطفة التي لم يعتبروها شرا كغيرهم، بل شيئا جميلا خَيِّـرا في أصله، ونادوا بالإبداع وبالعبقرية الفردية فصاروا "ينظرون إلى الأدب على أنه من إنتاج الفرد وعبقريته" ([7])  ، فهـو إبداع فردي متميز ببصمة صاحبه، فلا مجال لمقاربته بمعايير نقدية جامدة، بل يجب تشجيع ما سموه النقد الخلاّق الذي يفسر الإنتاج " تفسيرا علميا بوصفه تجربة حيّـة للفـرد في بيئته الخاصة " ([8])  لا نقدا يقيس قيمة العمل الأدبي بمدى التزام صاحبه بالقواعد المفروضة عليه مسبقا.
       لقد انتصر الرومانسيون للفرد على حساب الجماعة وللوجدان والعبقرية المتميّـــــــــــــــــزة على حساب القواعد الثابتة، فكان من نتائج نزعتهم الفردية ظهور نقد يصبَُ كل اهتمامه على قراءة الكاتب وعبقريته وتفاصيل حياته وبيئته وجنسه وكيف تأثر بغيره أو أثّر فيهم، وهو التوجّه الذي تبلور منه النقد الأدبي الحديث وتاريخ الأدب الحديث، وهما العِلمـان اللذان كانا سببا في نشأة الأدب المقارن.   
ولا ننسى أن الرومانسية قد اصطبغت بنزعة ذاتية، رافقها نوع من الاعتداد باللّغـات والآداب القوميـة المتحررة من القوالب الكلاسيكية الموحدة، لتبرز الخصوصيات التي كانت تميز كل أدب قومي عن آخر من جهة، وتظهر معالم التفاعل والتأثر والتأثير واضحة بين تلك الآداب، مشكِّلة مجالا لائقا لظهور الدراسات المقارنة.
وكان ولهلم شليغل w.shlegel (1746-1845) رائد النقاد الرومانسيين، لا بدعوته إلى محاكاة الطبيعة وخلط المأساة بالملهاة فحسب، وإنما بنظرته الخاصة للنقد، فقد اعتبر النقد وسيلة لوصف الحقائق الأدبية وسبر أغوارها قصد تفسيرها والإعجاب بها، تفسيرا وإعجابا يصل بالناقد إلى "بعث عبقرية المؤلف"([9]). وقد سار هـذا التفسير في اتجاهين، أولهما ينظر إلى الأدب في علاقته بالمجتمع، وأبرز رواده مدام دي ستال Mme de stael، والثاني ينظر إليه في علاقته بمؤلفه، ورائده سانت بوف Sainte – Beuve.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



[1] )_ كوزموبوليتية: معناها العام هو مذهب يعتنقه من يتجاوز نطاق الأمة والقوم والشعب، ويدعو إلى المواطنة العالمية، فهي تعكس رغبة في التمتع بمميزات جميع الأمم والثقافات، قال شاتوبريان: "ليس الأسلوب كوزموبوليتيا كالفكر، لأن له أرضَ نشأة وسماءً وشمسًا خاصة به"
[2])- ماريوس فرونسوا غويار، الأدب المقارن، تر: هنري زغِيبُ، منشورات عويدات، بيروت_ باريس، ط2، 1988، ص11.
([3]) – رامي فواز أحمد الحموي، النقد الحديث والأدب المقارن، ص: 114.   
([4]) – محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص 33.
([5]) – رامي فواز أحمد الحموي، النقد الحديث والأدب المقارن ص 114 – 115. 
[6]) ينظر: محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص 37.  
[7]) – محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن ، ص: 40.  
[8]) المرجع نفسه ، ص: 40.  
[9]) ينظر: محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص: 41.  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

الدراسات المقارنة العربية

المحاضرة الحادية عشرة :   الدراسات المقارنة العربية I – البدايات : كانت النهضة العربية علمية أولا ثم بعدها أدبية، ولعل أول من وضع الل...