المحاضرة الرابعة: اتجاهات الرومانسية.
أ- مدام دي ستال Mme de stael ( 1746 – 1817) :
هي الرائدة
الأولى للرومانسية في فرنسا، وأول من أطلق عليها هذه التسمية، عرفت بكثرة
أسفارها وباطلاعها على عديد الآداب العالمية، سمحت لها معرفتها للألمانية واطلاعهـــــــــــــا على الأدب الألماني باكتشاف
ما فيه من أبعاد روحية، كما اطلعت على النقد الألماني الذي يرتكز كثيــــرا على الفلسفة، باعتبارها الحقل المعرفي الواسع الذي
يمد الأدب بعديد التيارات الفكرية والأفكار التحررية التي تتصنع تحرُّره وتطوره. ورغم
اصطباغ دعوتها بطابع وجداني قوي، واقتناعها بأن الأدب وليد عبقرية الكاتب ونتاج
تفكيره (الطابع الفردي)، شأنها في ذلك شأن بقية الرومانسيين، إلا أن نقدها كان ذا
طابع علمي يميـــــــــــل إلى التعليل والتفسير،
كما «وجهت نشاطها أوّلاً إلى تفسير الإنتاج الأدبي بتأثره بالنظم
الاجتماعية التي تخضع لها الأمة من صور
الحكم ومن الدين والعادات».([1])
، فهي ترى أن الأدب صــــــــــــــــورة للمجتمع بعاداته وقوانينه ونُظُمـــــــــــــــه،
لذا فإن دراسته لا تكون إلا في ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية التي أنتجته
بهدف الكشف عن كيفية نمو الخيال والفكر
الإنسانيين ومن ثمّ تقدم الإنسانية، «فمدام دي ستال تقصد في اتجاهها إلى ربط الأدب
بالمظاهر الاجتماعية، ثم إلى بيان تقدم العقل البشري على مر العصور »([2])، ولما عـادت إلى بلادها راحت تدعو إلى الاهتمام بالطابع
الفردي للأدب مع ربطه بالنظم الاجتماعية التي أوجدته كالديانات والشرائع والقوانين
والعادات والتقاليد، فجاء نقدها ذا طابع علمي اجتماعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي،
يركز على خصوصيات الأدب التي يستمدها من المجتمع فيكون صورة صادقة له، إذ تقــــــــــــــــــــول:
"إلى الشرائع والقوانين يكاد يرجع كل التحالف أو التشابه الفكري بين
الأمم"([3])
ورغم بُعد مثل هذه الدراسات عن جوهر الأدب
المقارن، إلاّ أنّ الأمثلة الكثيرة التي كانت تسوقها من الآداب الأخرى لإثبات
فرضياتها قد أسهمت في نشأته ونموّه، خاصّــــــــــــــــــة مع دعوتها الصريحة
إلى دراسة الآداب الأخرى في لغاتها الأصلية.
لقد سعت دي ستال إلى ربط الأدب بالمجتمع والبيئة التي
أنتجه لتبين كيفية تطور العقل البشري عبر العصور، مما دعاها إلى الاستعانة
بالتاريخ لوضع النص في بيئته ورصد تأثره وتأثيره، وهو باب ليس من صميم الأدب
المقارن، وإنما كان تمهيدا لظهوره، فالتركيـــــــــــــــــــــز على الخصوصية الاجتماعية
للأدب يحيل بالضرورة على تمايز الآداب القومية من جهة، وتأثير بعضها في البعض
الآخر، وذلك مجال الدراسة المقارنة، ناهيك عن الأمثلة الكثيرة التي كانت دي ستـال
تسوقها من آداب أخرى، فقد عملت على تعريف الفرنسيين بالأدب الألماني وتحدثت طويلا
عن أوجه التشابه والاختلاف بينه وبين الأدب الفرنسي، فبكسرها للحدود بين الآداب
وبإطلاعها الواســــع وانفتاحها على ثقافات غيـر ثقافتهـا تكـون قد أسهمت في وضع
اللبنات الأولى للدرس المقارن. يقول هنري باجو في كتابه ( الأدب المقارن والعام): "وأخيرا جاءت مدام دي ستال وبرزت
مع كتابيهــــــــــــــــــــــا "من الأدب" ( 1800م)، و"من
ألمانيا" (1810م) كنمـوذج للوسيـط بين ثقافتين، اهتم المقارنون غالبا
بشخصيتها وعملها ولهذا لم يدرسوا نجاحا أدبيا أوربيا، ولكن أيضا مبادئ حقل معرفي
وملامحه".
لقد خلصت
مدام دي ستال في نقدها الذي تضمنه كتاباها المذكوران آنفا إلى إقرار اتجاهين كان
لهما الأثر البالـغ في الدراسات الأدبية وفي ظهور الأدب المقارن بالأخص، "هما:
- الدعوة إلى تحديد الطابع الخاص لكل إنتاج فني
عن طريق ربطه بالطابع القومي لكل شعب؛ ذلك أن الأديب، فيما ترى، صورة للمجتمع،
... وقد دعاها ذلك إلى الإقرار بنسبية التذوق
الجمالي"([4])
، فلا يحق للناقد إصدار أحكام ثابتة أو الاحتكام لتلك القيم والمعايير
الجاهزة التي كان الكلاسيكيون يفرضونها، باعتبار الأذواق تختلف من بيئــــــــــــــــــــة
إلى أخرى ومن أمّـة إلى أمّـة، فلا وجود لقيم ذوقية ثابتة وخالدة.
وقد مهّد هذان
الاتجاهان لظهور الأدب المقارن بما تضمناه من إقرار لخصوصية كل أدب قومي وتميُّـزه
عن غيـره من الآداب، ومن دعوة واضحة إلى إلغاء الحدود بين الآداب القومية المختلفة
وإلى انفتاحها على بعضها البعض، مما كان له تأثير واضح في الدروس المقارنة فيما
بعد.
وبشكل عام يمكن
تلخيص أثر الرومانسية في ظهور الأدب المقارن في ثلاثة عناصر هي: - الدعوة إلى
قراءة الآداب الأخرى والاطلاع عليها بلغاتها الأصلية في خضم التوجه التحرري الذي
اصطبغت به مبادئها، - التوجه العلمي الذي أسهم في ظهور النقد الحديث والأدب
المقارن متأثرا بمنهج المقارنة في مجال العلوم التجريبية، وأخيرا محاولات البحث في
جذور ثقافة الكاتب والعناصر المكونة لها كما هو الحال في نظرية ( التاريخ الطبيعي
لفصائل الفكر) لسانت بوف، والتي فتحت آفاقا لدراسة معالم التأثر والتأثير.
6_ النهضة العلمية:
شهد القرن
التاسع عشر ميلاد نهضة علمية صحبها توجه واضح نحو دراسة النظريات العلمية وتفسيرها
وتطبيقها، كما كان العصر عصر المخترعات الحديثة التي زادت من انبهار العقل بالعلم،
ومن ثقته فيه وفي قدرته على حل مشاكل الإنسان، وامتدت هذه الثقة إلى الأدب والنقد
اللذين أبديا عزوفا عن أحلام الرومانسية وخيالها الواسع، فاتجه الأدب نحو واقع
الحياة "يصف في موضوعية ما تزخر به من مواطن البؤس والضعف" ([5]) ، فكان ذلك إيذانا بميلاد الواقعية المهتمة
بهموم العمال على أنقاض المذهب الرومانسي الذي كان حليفا للطبقة البورجوازيــــــــــــــــــــــــــــــــــة
في مواجهة الأرستقراطيين.
أما النقد فقد
اتخذ وجهة علمية متأثرا بالنظريات الكبرى السائدة آنذاك، محاولاً تطبيق قواعـد
العلـوم التّجريبيـة في دراسة الأدب، فنظرية داروين ( 1809 – 1882) في أصل الأنواع
كانت الدافع الأساس لقيام دراسات نقديـة تبحث في أصول الأشياء في العمل الأدبي،
وتحاول العودة بها إلى أصولها التي تطورت عنها، كما مال النقد إلى تفسير الظواهر
تفسيرًا علميا. ومن أهم أقطاب النقد العلمي الذين بدا تأثرهم جليا بالتوجهات
العلمية (سانت بوف).
سانت بوف SAINTE BEUVE ( 1804 –
1869): من أكبر
أعلام النقد الحديث، تأثر بدراسته للطب فاتخذ منحى علميا في نقده، وانصب اهتمامه
على الدلالة الفردية للأدب، أي دلالته على شخصية الأديب.
إذ يرى أن
الدراسات الأدبية هي محاولة الاقتراب من الأدباء الكبار عبر نصوصهم، بتقمص شخصياتهم
وتمثل حركاتهم وأحاسيسهم مع ربطهم بالحياة اليومية." ووظيفة النقد الأدبي –
عند " سانت بوف" – هي النفاذ إلى ذات المؤلف لتستشف روحــــــــــه من
وراء عباراته، بحيث يفهمه قراؤه، وفي ذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب" ([6]) ويتوخى النفاذ الكامل في شخصيته
لرفع الستار عما تخفيه نفسه وما تودّ ذاكرته أن تمحوه أو ما تنطوي عليه نفسيته من
أمراض وعقد، وبذلك يكون قد خطا بالمبادئ النقدية التي قالت بها مدام دي ستال
" خطوة جديدة، حيث يضيف إلى عامـل البيئة وأثره في الأدب، شخصية صاحبه ومزاجه
الطبيعي"([7])
أسس سانت
بوف لنظرية نقدية مفادها أن العقول البشرية أصناف ونماذج، لكل نموذج منها طبيعته
الخاصة، " فيرى أن كل كاتب ينتمي إلى نوع خاص من التفكير، يكشف عنه استقصاء
طبائع العقول في الأدب الذي ينتمي إليه" ([8])،
وتصنيف تلك العقول يقتضي إجراء موازنات بين النصوص. ورغم انحصار بحوثه في مقارنة
آداب فرنسية بعضها بالبعض الآخر، فإن نظريته في التاريخ الطبيعي لفصائل الفكر صارت
مَدعــــــــــــــــــــــــاةً للبحث في امتدادات كل أنموذج عقلي خارج حدود
القومية التي وجد فيها، وفي ذلك تمهيد
واضح لظهور الدراسات المقارنة.
وقد ظهر
صدى هذا الاتجاه أيضا في بحوث الكاتب الإنجليزي (هاتشيسون م. بوسنيت Hucheson M.Posnett) الأستاذ
بجامعة أوكلاند، حين نشر كتابه (الأدب المقارن سنة (1886)، "وهو بحث تاريخي حول جذور آداب العالم أجمع
وتطورها، يستخدم فيه أسلوب المشابهات ليستنتج قوانين توارث الأنواع الأدبية كما
تحددها البنى الاجتماعية " ([9]) ، وراح يبحث عن عناصر المقارنة خارج حدود
الآداب الأوربية في الهند وأمريكا الجنوبية. محاولا الربط بين تطور الظاهرة
الأدبية وتطور المجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية إلى مدنية متحضرة. غير أن هـذا
المجهود المقـارن "لا قيمة له في الدراسات المقارنة الحديثة، ولكنه كان خطوة
في تفسيـر الأدب بوصفـه ظاهرة عامة مشتركة بين الآداب"([10]) ممـا اعتبر خروجًا عن حدود الأدب الواحد
وتمهيدا لقيام الأدب المقارن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire