mercredi 2 octobre 2019

الدراسات المقارنة العربية


المحاضرة الحادية عشرة:  الدراسات المقارنة العربية
I – البدايات :
كانت النهضة العربية علمية أولا ثم بعدها أدبية، ولعل أول من وضع اللبنة الأولى في هذا الحقل المعرفي هو " رفاعة الطهطاوي " الذي سافر مع البعثات الطلابية إلى فرنسا كواعظ ديني وألف، بعدما أطلع على بعض مظاهر الحضارة الغربية، كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص أخبار باريز " الذي كان مقارنة شكلية وسطحية بين الثقافتين الشرقية والغربية .
أضف إلى ذلك " سليمان البستاني " الذي ترجم " إلياذة " هوميروس شعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا من اليونانية إلى اللغة العربية الذي حاول من خلال المقدمة التي كتبها لهذا العمل أن يبحث عن الشعر القصصي العربي ويقارنه بمثيله الفرنسي أو الغربي عامة لكنه خَلُص إلى نتيجة مفادها أن لا وجود للشعر القصصي الفني الحقيقي في الثقافة العربية .
 وعند انتهاء القرن التاسع عشر كان الإقبال على الدراسات المقارنة كبيرا ويظهر ذلك جليا عند عدد من المؤلفين السوريين أمثال " نجيب الحداد " الذي حاول المقارنة بين الشعر العربي والغربي (الفرنسي) وانتصر للشعر العربي، والملاحظ أن هذه الدراسة كانت ضعيفة جدا.
 كما كانت مجلة " المقتطف " حينذاك اللسان الناطق باسم الوعي الفكري المتفتح، وقد نشرت مقالا بعنوان "بلاغة العرب والإفرنج " لأحمد كامل الذي رجح بلاغة العرب وتحامل على البلاغة الفرنسية وقد انتُقد من قبل "خليل ثابت" و"نيكولا فياض" اللذين نعتاه بالجاهل للثقافة والبلاغة الغربية.
 لعل أول عمل يستحق الذكر فعلا هو كتاب "روحي الخالدي " بعنوان " تاريخ علم الأدب عند الإفرنج  والعرب وفيكتور هوغو "(*).
وهو يشمل على مقدمة تاريخية واجتماعية في علم الأدب عند الإفرنج والعرب أثناء تمدنهم حتى العصور الوسطى وما أخذه الإفرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة لاسيما "فيكتور هوغو " (Victor Hugo) ومن بين الموضوعات التي تناولها أيضا أخذ التروبادور علم القوافي عن العرب والأصل العربي لمسرحية السيد (le Cid) لكورناي.
 وبعد الخالدي، كان الاهتمام بالدراسات المقارنة يزداد ، ففي سنة 1912 يكتب الشاعر العربي " مطران خليل مطران " في مقدمته  لمسرحية " عطيل" لسكشبير التي ترجمها إلى اللغة العربية، عن اقتراب شكسبير من الذوق العربي "
 وفي مطلع العشرينات بدأت كلمة " مقارن " تظهر بوضوح أكثر في مجال الدراسات الأدبية العربية وتحتل مكانا في بعض المعاهد العليا، كمدرسة دار العلوم بالقاهرة التي استخدمت منهج المقارنة في مجال الدراسات اللغوية ففي سنة 1924 كانت تدرس بها مادة جديدة بعنوان " اللغة العبرية واللغة السريانية ومقارنتهما باللغة العربية ".
 وقد ساهمت هذه المدرسة، دار العلوم، في إرساء قواعد الدراسات المقارنة لا سيما مع الأساتذة "أحمد خاكي " ومهدي علام" و"عبد الرزاق حميدة " و" إبراهيم سلامة "...
وفي مطلع الثلاثينات ساهمت مجلة  "الرسالة" بنشر بعض الدراسات الخاصة بالأدب المقارن والآداب الأجنبية بشكل عام، بالإضافة إلى مجلة " المقتطف " التي نشرت بدورها عدة مقالات من هذا النوع لا سيما في سنة 1933 ومن بين هذه المقالات نذكر مقال نشره باللغة الفرنسية " ماريوس بك شميل" بعنوان "لامرتين في ربوع الشرق " إلا أنها كانت وصفية.
 هذا وقد نشرت مجلة الرسالة أيضا في سنة 1933 مجموعة من المقالات حول " الأدب الفارسي والأدب العربي " واتصفت بالعمق النسبي والمنهجية.
 بالإضافة إلى بعض المقالات التطبيقية مثل مقال بعنوان " دانتي أليجيري والكوميديا الإلهية وأبو العلاء المعري " متبوعة بسلسلة من المقالات في نفس المجال .
 هكذا كانت مرحلة الثلاثينات هي حجر الأساس في ظهور البحث التطبيقي في الدراسات المقارنة العربية.
 وفي الأربعينات من القرن العشرين ظهر كتاب ذو أهمية في هذا الحقل المعرفي الأدبي لإلياس أبي شبكة بعنوان " روابط الفكر بين العرب والفرنجة"
 وفي سنة 1946 ظهر كتاب لشفيق جبري بعنوان " بين البحر والصحراء " لكنه كان بعيدا عن الدراسات المقارنة.
 وفي سنة 1948 ظهر كتابان هما:" من الأدب المقارن " لنجيب العقيقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي و"في الأدب المقارن " لعبد الرزاق حميد".
 اعتبر شوقي ضيف كتاب "نجيب العقيقي " ثمرة دراسة طويلة في الأدب العربي والغربي مما أدى بفيكتور يزيتي إلى التساؤل : هل بإمكان الأدب العربي أن يقارن بالآداب الأخرى ؟.
 هذا ولا يتميز عمل " عبد الرزاق حميدة " عنه كثيرا ، وكان عبد الرزاق حميدة رئيس شعبة اللغات بكلية القاهرة وأحد دعاة تدريس الأدب المقارن منذ 1940، ويعد كتابه المذكور سابقا وثيقة هامة عن وضعية المقارنة في الفترة الجنينية .بالإضافة إلى ذلك ظهر كتاب " قصة الأدب في العالم " في هذه الفترة الزمنية.
 وفي مرحلة الخمسينات تعددت وكثرت وسائل التواصل بين العرب والغرب فاتسعت رقعة المقارنة في هذه الفترة لاسيما عند عودة العديد من الطلاب الذين تخصصوا في هذا المجال في أوروبا ونذكر من بينهم " محمد غنيمي هلال " الذي نشر سنة 1953 كتابه "الأدب المقارن " الذي يعد مصدرا مهما للدراسات المقارنة العربية.
 وفي نفس السنة نشر محمد محمد البحيري كتابا بعنوان " الأدب المقارن " وفي سنة 1957 نشر "صفاء خلوصي " الذي درس وتخصص في هذا الفرع المعرفي الأدبي في الجامعات الأوروبية، كتابا بعنوان "دراسات في الأدب المقارن " بالإضافة إلى مؤلفاته الأخرى التي بعنوان :" الأدب المقارن " و" فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة " والترجمة التحليلية ".
 وبهذا تنتهي المرحلة التأسيسية للدراسات المقارنة في البلاد العربية لتترك المجال لمرحلة الترويج.
 وفي هذه المرحلة ظهرت مجلتان مختصتان في الدراسات المقارنة هما:
أ- مجلة " الدراسات الأدبية " ظهرت في لبنان من 1966 إلى 1967 كانت تصدر باللغتين العربية والفارسية وكان يديرها محمد محمدي.
ب- الدفاتر الجزائرية للأدب المقارن: ظهرت في الجزائر فيما بين 1967 و1968 وهي تصدر باللغة الفرنسية وكان يديرها الدكتور " جمال الدين بن شيخ ".
 وفي سنة 1966 ظهر كتاب بعنوان " دراسات في الأدب المقارن " لعبد المنعم خفاجي" وفي سنة 1967 أصدر كتاب لحسن حسن جاد بعنوان " الأدب المقارن " ، بالإضافــــــــــــــــــــــة الى دراسات لويس عوض التي " اتسمت بالدقة والمنهجية، أضف إلى ذلك " طه ندا " و"حسين مجيب المصري اللذان كان يقارنان بين الأدب العربي والادب الإسلامي الشرقي، وفاطمة موسى : التي نشرت كتابا بعنوان " بين أدبين دراسات في الأدب العربي والانجليزي " ومحمد مفيد الشوباشي الذي نشر كتابه في هذه المرحلة لعنوان " رحلة الأدب العربي إلى أوروبا ".
       وفي فترة السبعينات تبدأ مرحلة النضج وأهم ما يمكن ذكره ثلاثة أبحاث جامعية: لمحمد عبد السلام كفافي في سنة 1971 وطه ندا في سنة 1975 وبديع محمد جمعـــــــــــــــــــــة في سنة 1978. والجدير بالذكر هنا هو ازدهار الدراسات المقارنة بين الأدبين العربي والإيراني.
 وفي هذه المرحلة أيضا يمكننا ذكر كتاب حسام الخطيب الذي ظهر سنة 1971 بعنوان " سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية: " دراسة تطبيقية في الأدب المقارن، أضف إلى ذلك كتاب " إحسان عباس" بعنوان ملامح يونانية في الأدب العربي.
 وفي الثمانينات ظهرت مجموعة كبيرة من المقالات والكتب بشكل ملفت للانتباه يدل على تطور هذا النوع من الدراسات في البلاد العربية ومن بين ما نشر في هذه الفترة نذكر.
-   مجلة " عالم الفكر " التي خصصت عددا كاملا للدراسات المقارنة سنــــــــــة 1980، وفي 1982 نُشر كتاب إبراهيم عبد الرحمان محمد بعنوان " النظرية والتطبيق في الأدب المقارن "، وفي سنة 1983 خصصت مجلة " فصول " عددين منها للدراسات المقارنة وفي نفس السنة نشر عبد الوهاب علي الحكي كتابا بعنوان "الأدب المقارن"، وفي سنة 1984 نشر "داود سلوم" كتابا بعنوان "دراسات في الأدب المقارن التطبيقي "
-    وفي سنة 1986 ظهر كتاب "سعيد علوش" بعنوان "مكونات الأدب المقارن في العالم العربي".
-    وفي فترة التسعينات تواصل الإصدار بنفس الوتيرة التي كان عليها في المرحلة السابقة ومن أهم ما ظهر فيها.
-   كتاب بعنوان "آفاق ألادب المقارن " عربيا وعالميا لحسام الخطيب سنة 1992.
-    وكتاب بعنوان " الأدب المقارن من منظور الأدب العربي " – مقدمة وتطبيق لعبد الحميد إبراهيم سنة 1997.
-   وكتاب بعنوان " نحو نظرية جديدة للأدب المقارن " في جزئين:
ج1 : البحث عن النظرية ، ج 2 : استراتيجيات المقارنة لأحمد عبد العزيز، وكان ذلك سنة 2002.





* - الإفرنج: هم الفرنسيون

مدارس الأدب المقارن


المحاضرة التاسعة:  مدارس الأدب المقارن
 3: المدرسة السلافية (الماركسية)، الرؤية والمنهج:
تعد الدراسات المقارنة عملا نقديا لا يميزه عن مجالات الدراسة الأدبية الأخرى سوى تركيزه على فكرة المبادلات الشكلية والفكرية والروحية بين الآداب، وما يقتضيــــــــــــــــــــــــــــــــــه ذلك من ازدواج مضمار البحث أو تعدده. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاختلاف في تحديد ماهية النص ووظيفته سيؤدي بالضرورة إلى تعدد مناهج المقارنة بتعدد المنطلق. فقد رأينا كيف أدت الرؤية التقنية للنص إلى تبني المقارنة للمنهج الشكلي، فنأت بنفسها عن الخــــــــــــــــــــــوض في اعتبارات خارجية هي من صميم عمل المؤرخ لا الأديب. غير أن مقابلة روادها للنقيض بالنقيض، جعلها تقـــــــــــــــــع بدورها في نقائص كثيرة أهمها عدم التمييز الدقيق بين مناهج ومفاهيم كل من الأدب المقارن والأدب العام، وإلغاؤها شبه الكلي للحدود القومية والسياسية.
وسـط تجاذبات الرؤى النقدية تأسست مدرسة ثالثة قدمت نفسها حلا وسطا لأوجه الخلاف تلك، وهي المدرسـة الماركسية الروسيـــة أو السلافية التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين كاتجاه نقدي متشبع بالفلسفة الماركسية ذات المنحى المادي الجدلي الذي يرى أن التطور التاريخي ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج الصراع الطبقي السائد في المجتمعات البشرية، فالمجتمع بنيتين: فوقية يمثلها الفكر والثقافة والأدب، وتحتية يمثلها الاقتصاد والجوانب المادية في المجتمع، والبنية التحتية تتحكم في البنية الفوقية وتوجهها، وبما أن الأدب جزء من البنية الفوقية، فإن دراسته يجب أن تمر عبر دراسة المجتمع الذي نشأ فيه وتأثر بحركيته، وهو ما يعني مُناقضة الاتجاه الشكلي القائل بأن النص بنية لغوية مكتفية بذاتها، ينمو ويتطور بفضل تفاعل العناصر الداخلية، أو ما يسمى تفجير اللغة لذاتها بتطوير علاقاتها القائمة بين عناصرها البنيوية، ذلك الاتجاه الذي أذاب كل الحدود اللغوية والقومية بين الآداب، وساوى بينها مُتخذا إنسانية الموقف وأخلاقية النظرة مبررا لإلغاء التمايز بين الآداب.
لقد ظهر علم الأدب الروسي السوفياتي على خلفية مدرسة (فيسيولوفسكي) للاقتبـاس، إذ ركز على المذهب الوضـعي التاريخي في مجال الفولكلور المقارن، وسعى إلى توسيع دائرة المقارنة إلى أبعد حد في إطار المواضيع والأفكار المتجولة، وكان ذلك النواة الأولى للمدرسة الاشتراكية في الأدب المقارن. غير أن هذا الاتجاه الجديد لم يتبلور في شكل مدرسة قائمة بأسسها ومبادئها كما هو الحـال في المدرستين: الفرنسية والأمريكيـــــــــــــــــــــــــــــــة، بل تجسدت ملامحه العامة من خلال إنتاج مجموعة من النقاد جمعهم التصور المادي الجدلي كمنطلق وخلفية إيديولوجية، يقول سعيد علوش: "لا توجد مدرسة سلافية، بكل معاني الخصوصية والانسجام، بل يوجد إنتاج، يخضع لخلفيات فكرية وسوسيولوجية معينة"
فبعد أن كان الأدب المقارن، طيلة الفترة  الممتدة من 1945 إلى 1955، رهين المنظور السياسي الذي ضيق دائرته حتى كاد يقضي عليه، شهدت روسيا بسقوط الستالينية ترسخ عقيدة التعايش السلمي، فأُنشئ أول فرع للأدب المقارن بمؤسسة الأدب الروسي (دار بوشكين) سنة 1956، وعاد باب الحوار بين الأورباتين ليفتح من جديد في شكل تقارب بين أدباء الشرق ونظرائهم الغربييين، فقد استشهد الفرنسي (رونيه إتيامبل) بأقوال ماركس في ندوة بودابيست سنة 1962، وبيّن أن لا محال للعزلة الوطنية والإقليمية، وأيّد (ن.إي. كونراد) في مهاجمته للمركزية الأوربية، وفي دعوته إلى توسيع دائرة المقارنة زمانيا لتشمل عصور ما قبل النهضة، ومكانيا، بإدراج حضارة الشرق والعالم كله في دائرة المقارنـــــــــــــــــــة، مع الانفتاح على اللغات الأخرى كالعربية والصينية والإغريقية والسانسكريتية. يقول عز الدين المناصرة: إنّ "الباحثين في الاتحاد السوفياتي اقترحوا توسيع الحدود الزمانية والمساحية للأدب المقارن بالخروج عن حدود الآداب القومية ودراسة العلاقات الدوليّــــــــــــــــــة من خلال عملية تطورها الثابتة" ([1])
أما جيرمونسكي (Girmounsky) فقد أكد خلال المؤتمر الخامس للجمعية العالمية للأدب المقارن ببلغراد، عام 1967 "على أهمية التشابهات والاختلافات النمطية (التيبولوجية)، خارج ضرورة المحاكاة أو التأثير الواعي"([2])، مشددا على ضرورة التخلي عن تقاليد المدرسة الفرنسية. ومن هذه التوجهات الجديدة تبلور تعريف المدرسة السلافية على أنها: "البحث عن الروابط المشتركة والتفاعلات بين الآداب في تطورها التاريخي".
فقد دعا رواد ها إلى دراسة العلاقات بين الآداب التي لا تجمع بينها صلات تاريخية، سعيا منهم إلى الكشف عن القوانين الحتمية التي تحكم الظاهرة الأدبية، كما أصــــــــــــــــرّوا على دراسة خصوصية الآداب القومية الروسية، وأهم ما نستنتجه من التحديد السابق:
1_ أن التأثير والتأثر عملية متبادلة بين الأمم، ولا تصدر من جهة واحدة كما يدعي الفرنسيون.
2 _ أن كلا من المتأثر والمؤثر إيجابي يفيد ويثري ثقافته أو ثقافة غيره.
3 _ الاعتراف بوجود خصوصيات قومية لا يمكن إغفالها.
4 _ أن كل أدب أو ثقافة يعبر في فترة ما عن مرحلة من مراحل التطور التاريخي، وما على الدارس إلا الحكم عليها بموضوعية، وبمنظور الوضع الاجتماعي الذي أنتجها، فالثقافة التي تكون قوية مؤثرة في فترة زمنية ما، قد تصير متأثرة في فترة أخرى وتدخل في مرحلة ضعف وتبعية.
لقد كان الإنجاز الأول للسلافيين إعادة ربط النص بإطاره الخارجي (الاجتماعــــــــــــــــــــــــــــــي) في إطار أقل اتساعا، هو إطار العلاقة الجدلية بين الأدب كجزء من البنية الفوقية، والمجتمع كجزء من البنية تحتية، بغية الكشف عن القوانين الجدلية المتحكمة في تطور الظاهـرة الأدبية، تلك القوانين التي تهــدف في النهاية إلى خدمة أهداف اشتراكية، وتسعى إلى الوقوف بالدرس المقارن موقفا وَسَطاً بين تطرف الأمريكيين المتمثل في نفيهم التام لسياق النص، وتطرف الفرنسيين الذين شددوا على فكرة التأثر والتأثير بُغية إثبات التفوق والتبعية. فالماركسية ترفض فكرة المقابلات البنيوية، وتعتبرها "مقارنة على مستوى فكري محدود، وهذا غالبا ما هو إلا مطابقات وتشابه سطحي، الشيء الذي يؤدي إلى إثبات القرابة أو النسب الوهمي" ([3])، مقابل التستر على الظواهر الخارجية (الاجتماعية خاصة) التي أوجدت ذلك النظام النصي.


[1]) _ عز الدين المناصرة، مقدمة في نظرية المقارنة، ص 21.
[2]) _ سعيد علوش، مدارس الأدب المقارن، ص128.
[3])_ ميشال باربو (أستاذ بجامعة السوربون)، الأدب المقارن عند العرب، المصطلح والمنهج، مجلة الملتقى الأول للمقارنين العرب حول الأدب المقارن عند العرب، المصطلح والمنهج، جامعة عنابة، الجزائر، 1984، ص178.

الأدب المقارن، الأدب العام والأدب العالمي.


المحاضرة العاشرة:  الأدب المقارن، الأدب العام والأدب العالمي.
       يقف الدارس المقارن إزاء عدد من المفاهيم الملتبسة بموضوع المقارنة ومجال اشتغالها، وهي مفاهيم تميزها بعض المرونة المكتسبة من تعدد اتجاهات الدرس المقارن ومناهجه.
الأدب المقارن والأدب العام: سبق لنا تعريف الأدب المقارن بأنه مجال بحث يعنى بدراسة الظواهر الأدبية عبر الحدود القومية، سواء أكانت تلك الظواهر مسألة أدبية أم فكرة أم شكلا أدبيا ما انتقل من أدب أمة إلى أدب أمة أخرى، بل إن رواد المدرسة الأمريكية وسعوا مجال المقارنة ليشمل كل الظواهر الأدبية المشتركة دون اشتراط وجود صلة تاريخية تثبت حدوث التأثر والتأثير.
       لكن الأدب المقارن كثيرا ما اصطدم بضيق الأفق إذ انحصرت موضوعاته في: "دراسة كاتب واحــد أو مُؤلَّف مــن المؤلفات أو مسألة من المسائل أو فكرة من الأفكار، وقلّما يتجاوز الباحث في ذلك حدود أدبين أو ثلاثة" ([1])، مما جعل الدراسات المقارنة تسعــــــــــــــــــــــــى إلى الإحاطة بتلك الحقائق الأدبية المشتركة في الآداب العالمية، والتي لا يمكن التأريخ لها وإجلاء جميع ملامحها وامتداداتها في حدود أدبين أو ثلاثة فقط، لتلج الدراسة بذلك مجال بحث أوسع هو ما يسمى (التاريخ العام للآداب) أو (الأدب العام) ([2]).
       لقد عمل الباحث الفرنسي (فان تييغم) على الفصل بين المصطلحين: الأدب العام والأدب المقارن، "فجعل الأدب المقارن مختصا بدراسة المواجهة التاريخية الثنائية بين أديبين أو أدبين من هويتين مختلفتين، وجعل الأدب العام مختصا بدراسة الظاهرة الأدبية الممتدة إلى أكثر من أدبين قوميين مثل الحركات والتيارات والأفكار والأشكال الأدبية"([3])
       ومن الأمثلة  التي يقترحها منظرو الأدب العام مجالا للبحث في هذا التخصص دراسة التيار الواقعي أو الرمــــــزي أو الرومانسي، أو فكرة الاغتراب أو التشاؤم وامتداداتهـــــــــــــا في مجموع الآداب الفرنسية، الإيطالية ، الألمانية، ... إلخ، "في نطاق وحدة ثقافية معينة" ([4])، كوحدة الأدب الاوربي، العربي أو الآسيوي، سواء أكان أكان مبدأ التأثر والتاثير ماثلا بينها أم غير ماثل.
       الأدب العام من وجهة نظر سوسيولوجية:
       سعى دعاة المدرسة الاشتراكية إقحام القوانين الجدلية في تحديد مفهوم الأدب العام، فرأوا أن دراسة الظواهر الأدبية الممتدة يجب أن تيم في ضوء التصورات الجدلية وحتميات الصراع الطبقي، باعتبار الظاهرة الأدبية جزءًا من بنية فوقية تتحكم فيها البنية التحتية. فبعض الظواهر الأدبية التي تحدث في الآداب المختلفة لا يمكن فهمها في إطار التأثيرات المتبادلة، فالواقعية العربية مثلا كانت في جزء كبير منها نتاج حتمية اجتماعية واقتصادية ظروف محلية، بينما كانت في شق محدود منها وافدة من الغرب، "وهكذا نرى كــــــــــــــــــــم يمكن أن تكون مفيدة للمقارنين نتائج التعاون الوطيد مع أنصار المادية التاريخية، على ألاّ يستخدم هؤلاء منهجهم لأخراض دعائية هابطة"([5])
       فإذا كان تفسير بعض الظواهر الأدبية في ضوء القوانين الجدلية ممكنا، فإن ظواهر أخرى لا تقبل هذا الطــــرح من أساســـــــــــــه، ومن أمثلة ذلك (الاستعارات المبتذلة) التي بقيت تراثا وبُنًى عقلية مكتسبة لم تمحُها أية تحولات اجتماعية، ومن أمثلتها ما ذكره كلود بيشوا وأندريه م.روسو من ظواهر توارثها الكلاسيكيون عن العصور الوسطى واستمر توظيفهــــــــــــــــا إلى اليوم، فطريقة المحاميــن التي يستخدمونها في أيامنا هذه خلال مرافعاتهم، والتي تبدأ بمسكنة مؤثرة، يليها التوسُّل إلى قلوب القضاة،ثم الخاتمة المؤثرة، ما هي في الحقيقــــــــــــــــــــــــــــــة إلاّ استعارة مبتذلة توارثوها عن كبار البلغاء القدامى. وصورة الطفل الذي يحمل صفات الشيخ هي أيضا استعارة مبتذلة موجودة عند شيشرون Ciceron، وفرجيل Vergil، كما توجد عند اليونان وعند الصينيين، وتفسيرها لا يستقيم في ضوء الطرح الجدلي بل تصلح له نظرية (الشعور الجمعي) لكارل يونغ. ([6])
       الأدب العام من منظور المدرسة الأمريكية:
       وقف المقارنون الأمريكيون موقفا مناقضا من التمييز التاريخي بين الأدب العام والأدب المقارن، وأصروا على "توسيع مجال الدرس الأدبي المقارن ليشمل كل شيء يتعلق بالظاهرة الأدبية في كُلِّيتها ووِحدتها وشموليتها عبر الحواجز القومية"([7])، فالتمييز بالنسبة إليهم مصطنع، بل يعمل على صرف نظر الدارس عن الظواهر النصية أو البنيات الداخلية الجمالية للأدب، ومن ثم رأى هؤلاء أن كل الموضوعات المدرجة تحت مصطلح (الأدب العام)، هي من صميم الدرس الأدبي المقارن سواء أتأسست على علاقات نصية أم تاريخية. وكان أن بقي الفرنسيون إلى اليوم متمسكين بفكرة الفصل بين الأدب العام والأدب المقارن، بينما يكتفي الأمريكيون بمصطلح واحد هو (الأدب المقارَن).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأدب العالمي
يعد الأديب الألماني غوته (Johan Wolfgang Von Goethe)، أول من بَشَّر بمفهوم (الأدب العالمي) أو كما يسميه (Weltliterature)، في نهاية العشرينيات من القرن 19، في وقت كان فيه أبيل فيلمان (Abel Villemain) يحاضر حول علاقة الأدب الفرنسي بالآداب الأوربية ممهِّدا الطريق لظهور الأدب المقارن كنوع جديد من الدراسات الأدبية. فقد صرّح غوتـــــــــــه في بعض رسائله "أن عصر الآداب القومية قد ولّى، وأن أدب عصر جديد قد بدأ"([8]). فالثورة الصناعية التي جلبت معها وسائل الطباعة والنشر والاتصال قد صارت تبشّر _حسب رأيه_ ببداية تجاوز الحدود القومية الضيقة للغات والآداب.
وغم كون المفهوم لم يبلغ درجة كافية من الوضوح عند غوتـــــــه، إلا أنه دعـــا الأدبـــاء الأوربييـــــن عامـــــة والألمـــان بشكل خـــــــاص إلى مسايرة روح العصر ومتطلباته بالتخلّـــــــــــــــــــي عن مواضيعهم وأساليبهم الوطنية، وأن يتهيئوا لإنتاج أدب قادر على دخول المنافسة العالمية التي سيكون البقاء فيها للإبداعات الأجوَد والأرقى والأكثر استجابة للذوق العام العالمــــــــــــــي. فقد صارت أمام الأدب كل الفرص ليخرج خارج حدوده القومية ويَلِجَ لغات ومجتمعات أخرى.
إن الأدب العالمي (Weltliterature) ليس "آدابا قومية وُضع بعضها على جوار بعض" ([9])، وإنما هو نوع من التركيب لتراث البشرية الأدبي، عناصره الأساسية هي تلك الأعمال الخالدة التي تصنع مجد الإنسانية، ولكن دون أن تفقد هويتها وخصوصيتها، وليس تركيبُ العناصر كرصّ بعضها إلى جانب البعض الآخر.
ويعرف غنيمي هلال الأدب العالمي بقوله: "خروج الأدب عن نطاق اللغة التي كتب بها إلى أدب لغة أخرى،  إما بالإفادة منها وَوُرود مناهلها، وإما بإمدادها بما يجعلها تغنى وتكمل في نواحيها الفنية وموضوعاتها"([10]).
أما غاية الأدب العالمي فهي إحصاء وتفسير كل الأعمال الأدبية التي يتكون منها تراث الإنسانية، أو فلنقل: "كل ما ينتمي إلى مجموع الأمم دون أن يفقد هويته كأدب لأمة بعينها"([11])
لقد كان المفهوم عند غوته ضربا من الرُّؤية النقدية غير الواضحة فلم يَلقَ التِفاتة جادّة من الأدباء والدارسين نظرا لتزامنـه مع الحروب التحررية ضد الغزو النابوليوني وتنامي النزعة القومية (المغلقة) آنذاك.
موقف المدرسة التاريخية:
تزامن ظهور مصطلح الأدب العالمي مع تبلور الدرس الأدبي المقارن في أووربا مع ما صاحبه من نزعة قومية حالت دون القَبول بفكرة غوته، ولقي مشروعه وهو في المهد صدًّا من التاريخيين، كون هؤلاء يجدون ضالتهم في الدراسات المقارنة التي تؤرخ للآداب القومية في ظل علاقاتها بالآداب الأخرى، على أن تبقى هي الأصل والمنطلق الذي يتخذه الدارس مركزا لتلك الدائرة الفيلولوجية التي تنتشر وفقها حركة التأثر والتأثير،وفق تصور التاريخيين . فهم "لم يكونوا مستعدين للتعامل مع أية مسألة أدبية من منظور فوق _ قومي إلاّ إذا كان لتلك المسألة علاقة بظاهرة التأثير والتأثر، وكانت دراستها مجدية من الناحية التأريخية." ([12]) غير أن الفرنسيين قد درسوا ظاهرة وثيقة الصلة بالأدب العالمي هي تاأثير بعض الأدباء في بلاد أجنبية وسُبُل بُلوغهم العالمية، كالترجمة والرحلات...، وبذلك يكونون قد أخرجوا المقارنة من الحدود اللغوية والقومية، خروجا مشروطا ببقاء القومي دوما هو الأصل والمنطلق في أية دراسة مقارنة.
موقف المدرسة الماركسية:
كان الاشتراكيون ينظرون إلى الأدب العالمي من البداية نظرة مادية جدليّـــة، ويذكر أنّ أبوي الماركسيــة ماركس وإنجلـز كانا أول من بشّر بذلك الأدب العالمي الحامل للقيم الاشتراكية والذي يلبي غاياتها وطموحاتها. فبما أن الآداب تمر في تطورها بالمراحل نفسها، وتتحكم في تطورها _حسبهم _ آلية واحدة هي آلية الصراع الجدلي ، فإن العالمية بدورها تصير درجة متقدمة من التطور يمكن لأي أدب/أديب أن يبلغها إذا توافرت له بنية تحتية تعضده، وهو موقف مخالف لما ذهب إليه التاريخيون من أن تطور الأدب وبلوغه درجة العالمية مرهون بحدوث التأثر والتأثير. وإذا كان الطرح الاشتراكي قد استطاع تفسير عديد الظواهر الأدبية، إلا أنه وجـــد نفســــه عاجــــزا عن تعليل ظاهرة تطور بعض الآداب وبلوغها مستوى عالميا كبيرا كأدب أمريكا الجنوبية،رغم ضعف المستوى الاجتماعي والاقتصادي للبلدان التي نشأت فيها، مما حدا بالماركسيين إلى البحث عن تفسيرات أخرى لظاهرة العالمية، فهذا جيرمونسكي يرى أن "عمليات الاستيراد الثقافي والأدبي التي أطلق عليها المقارنون التقليديون الفرنسيون تسمية ظواهر التأثر والتأثير، تخضع لحاجة الطرف المستورِد أكثر مما تخضع لحاجات الطرف المصدِّر"([13]) وهو رأي يلتقي مع طروحات نظرية التلقي ويصلح لتفسير الظواهر التي لم تَحتَــــوِها القوانين الجدلية، دون اللجوء إلى أوهام المركزية والهيمنة والغزو.
رأي المدرسة الأمريكية (النقدية/النصية):
ركزت المدرسة النقدية على الأبعاد الجمالية للآداب ولم تول اهتماما لظاهرتي التأثر والتأثير، فالظواهر الأدبية الكبرى كالتيارات والأجناس والفنون الأدبية لها امتدادات عالمية متفاوتة، ولا ينبغي حصرها في حدود اللغة والقومية.
إن تعريف الأدب العالمي بهذا الشكل قد يحمل مغالطات كثيرة أهمها:
_ تجاوزه للطابع القومي المميز للآداب.
_ تجاوز حدود اللغة وما ينطوى عليه من إمكانية هيمنة أدب ما على الآداب الأخرى بفعل كثرة انتشار لغته أو قوة بلده.
       رينيه إتيامبل (René Etiemble) : كان من أكبر المعارضين للمركزية الأوربية، ودعا إلى انفتاح الأدب المقارن والدراسات المقارنة على اللغات والآداب الشرقية، وأيد مفهوم (الأدب العالمي) خارج نطاق التأثر والتأثير بحيث يكون انطلاق الدراسة من كل الآداب على قدم المساواة قصد الوصول إلى شعرية المقارنة.
       فان تييغم (Van Tieghem): ناقد فرنسي، نبه إلى أن أدباء كثيرين حققـــوا نجاحـــا خارج بلدانهم دون أن يستحقــوه، وأن العديد من الآداب قد بلغت درجة كبيـرة من التطور دون أن تلقى اهتماما وعناية من النقاد والمقارنين مما يدعو إلى إعادة النظــر في معايير عالمية الأدب، فالانتشار لا يعني الجودة بالضرورة، وليس النجاح المؤقت لكاتب ما مثل النجاح الدائم الذي يحق لصاحـــــــــــــبه أن يوسم بالعالمية، ولذلك رفض قياس العالمية بمبدأ التأثر والتأثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] )_ غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص 341.
[2] ) _ يطلق غنيمي هلال المصطلحين معطوفين، ينظر: المرجع السابق، ص341.
[3])  _ أحمد شوقي عبد الجواد، مدخل إلى الدر س الأدبي المقارن، ص28.
[4] ) _ المرجع نفسه، ص29.
[5] )_ كلود بيشوا وأندريه م.روسو، الأدب المقارن، ص155.
[6] ) _ ينظر: المرجع نفسه، ص156_157.
[7] ) أحمد شوقي عبد الجواد، مدخل إلى الدر س الأدبي المقارن، ص29.
[8] ) _ عبده عبود، الأدب المقارن مشكلات وآفاق، ص45.       
[9] ) _ كلود بيشوا وأندريه م.روسو، الأدب المقارن، ص166.
[10] ) _ غنيمي هلال، دور الأدب المقارن في توجيه الدراسات العربية المعاصرة، ص27.
[11] ) _ كلود بيشوا وأندريه م.روسو، الأدب المقارن، ص166.
[12] ) _  عبده عبود، الأدب المقارن مشكلات وآفاق، ص 75_76 .
[13] ) _ عبده عبود، الأدب المقارن مشكلات وآفاق، ص77.



المحاضرة الثامنة:  مدارس الأدب المقارن
2 _  المدرسة الأمريكية والنقد الجديد:
       شهد النقد الأدبي مع بداية القرن 20 تحولا نوعيا في مقاربة النص الأدبي، فقد أحدثت مقولات سوسير اللسانية القطيعة بينه وبين السياقات الخارجية للنص، ووجهت عيون الدارسين إلى التأمل  في بنية الأدب وجوهره وأدبيته التي لا وجود لها خارج علاقاته الداخلية. وقد رافق هذه الرؤية الشكلية انتقادات حادة كانت توجه إلى المناهج السياقية وعلى رأسها المنهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــج التاريخي (الفرنسي) في الأدب المقارن، بدءًا من نأيه عن لب العمل الأدبي واهتمامه بالمؤثرات الخارجية، وصولا إلى المغالاة في الاعتماد على المنهج التاريخي الوضعي والتمسك بالشروط الفرنسية القاسية التي كبلت الدرس المقارن.
       ومن الاتجاهات الكبرى التي قدمت نفسها بديلا عن المدرسة التاريخية مدرسة النقد الجديد التي تأسست في الولايات المتحدة على يد رينيه ويليــــــــــــــــــــــــــــــك (René Wellek)، وذلك في محاضرة ألقاها سنة 1958، في المؤتمر الثاني للرابطة الدولية للأدب المقارن الذي انعقد في جامعة (تشابل هيل) بأمريكا، ووجه فيها نقدا شديدا للمدرسة الفرنسية نلخصه في النقط التالية:
1- تأثرها البالغ بفلسفات القرن 19 كالنزعتين: الوضعية والتاريخية.
2- الابتعاد عن جوهر الأدب وأدبيته والاهتمام بالسياق الخارجي وبما هو خارج دائرة الإبداع كالمجتمع والتاريخ والبيئة.
3- تحويل النقد إلى عمل إحصائي تاريخي أو عمل في المتاحف، همّ صاحبه تحقيق الصلات وإحصاء المبادلات، وتتبع عمليات التأثر والتأثير.
لقد كان هذا التيار الجديد نتيجة طبيعية لتلك المفاهيم الشكلانية ثم البنيوية الجديدة التي قلبت مفهوم النص ووظيفته، وأعادت النظر في مناهج نقده ومقاربته.
انطلق ويليك من ثلاث مقولات أساسية هي:
أ‌-    مقولة أخلاقية رافضة لمبدأ التمييز بين الثقافات والآداب، فهو يعتبر كل الآداب متساوية في القيمة والعطاء والفضل كل منها يخدم الآخر دون تعالٍ أو تمييز لثقافة عن أخرى.
ب‌-                    مقولة سياسية تدعو إلى الانفتاح على كل الثقافات والآداب العالمية ودراسة صور التفاعل بينها، لتحقيق حلم توحد العالم أدبيا.
ت‌-                    مقولة نقدية تنظيرية تؤكد على وحدة الظاهرة الأدبية مهما اختلفت حدودها القومية ولغاتها وزمانها ومكانها، وبالتالي فإن دراستها يجب أن تتم بعيدا عن مبدأ الدائن والمدين، بل من منظور نقدي هادف إلى فهم التشكيل الفني والجمالي لكل منهما في ضوء الأخرى.
لقد حوّل ويليك الدراسات المقارنة من بعدها الزماني إلى دراسة آنية تغوص في بنية النص لفهم تشكيله وجمالياته وعلاقاته الداخلية، وسعى إلى إبعاد المقارنة عن الاهتمام بغير الأدبي، وعن النظرة الدونية التي تعتبر العمل الأدبي "مجموعة من المؤثرات والوسائط الأدبية"([1]). ويتضح منهج ويليك في المقارنة وفق مجموعة من الأسس هي:
_ تجاوز الحدود القومية للظواهر الأدبية، فهي لم تكن في يوم ما مرتبطة بقومية واحدة، بل تمتد إلى آداب قومية مختلفة وقد يكسبها امتدادها صفة العالمية.
_ التركيز على جوهر الأدب وعلى أدبيته، باعتبار النصوص من وجهة نظر البنيويين بُنًى لا وسائط.
_ مقارنة الأدب بالفنون الأخرى التي قد تساعد على فهمه أكثر، باعتبار البنى الداخلية أو الجمالية متقاربة في كل الفنون سواء الأدب أو الموسيقى أو الرسم.
_ يرى ويليك أن الأدب المقارن يجب أن يبقى فرعا من فروع الدراسة الأدبية مستقلا وقائما بذاته، لا يذوب في النقد الأدبي، وإنما على المقارنة أن تكون نقدا يلامس أدبية الأدب، وعلى النقد، إذا أراد أن يمسك بحدود الظاهرة الأدبية، أن يكون مقارِنًا، لأن الظاهرة الأدبية تتجاوز بطبيعتها حدود القومية الواحدة واللغة الواحدة.
لقد أسس ويليك لمدرسة نقدية نصية ذات أبعاد إنسانية وجمالية، حررت المقارنـــــــــــــــــــــــــــــــة من الاعتبارات القومية واللغوية ومن كل السياقات الخارجية ، ووضعت من بين أهدافها الاهتمام بالأدب لا بغيره، المساواة بين الآداب من منطلق إنساني، وفتح أبواب المقارنــــــــــــة على كل الآداب بل وكل الفنون. إلا أن مدرسة ويليك لم تسلم من انتقادات وُجِّهت لها ومآخذ سجلت عليها أهمها:
·                     أن المساواة بين الآداب سابقها ولاحقها، عريقها ومولَّدها، مبدعها ومُحاكيها هو موقف لا يستقيم، فالتمايز بين الآداب واقــع لا مفر منه بحكم اختلاف مراحل النمو ودرجات التطور التي بلغها هذا الأدب أو ذاك الأديب في زمن معين من تاريخ نشأته وتكوينه.
·                     أن إلغاء مبدأ التمايز بين الآداب والثقافات بحجة تساويها في الفضل والعطاء لا يخلو من خطر إذابة ما كان حديث النشأة فيما هو أعرق وأقوى منــــــــــــــــــــــه، ولا من خطر إلغاء السِّمات القومية والشخصية لكثير من الآداب، وبالتالي الحكم عليها بالتفسخ والزوال .
·                     أما اعتبار الأدب المقارن فرعا من الدراسة الأدبية فلا يخلو من خطر ذوبانه فيها وتحوله إلى مجرد آلية من آليات النقد الأدبي، وهو إجراء يضر بهذا الفرع من الدراسة الأدبية ويهدد بزواله.
·                     أنّ ربط المقارنة بالجوانب النصية الشكلية وإبعادها عن مَهَمَّـــــــــــــــــــــــــــــة البحث في تاريخ الأدب، سيجعلها عاجــزة عن البحث في أصالته والحكم على عمق تجربته وصدقها، فالأمران مرتبطان يقاس الثاني منهما بالأول.
 وأخيرا فإن إلغاء مبدأ اختلاف اللغة والقومية كشرط من شروط المقارنة، وإن كان في ظاهره يرمي إلى تحرير المقارنة من فكرة المركزية الأوربية، فإنه قد يفتح الباب أمام مركزية أخرى تكون فيها الهيمنة للآداب المكتوية باللغات الأكثر قوة وانتشارا في العالم كالإنجليزية



[1] ) _ عز الدين المناصرة، الأدب المقارن، مشكلات وآفاق، ص29.

الدراسات المقارنة العربية

المحاضرة الحادية عشرة :   الدراسات المقارنة العربية I – البدايات : كانت النهضة العربية علمية أولا ثم بعدها أدبية، ولعل أول من وضع الل...