المحاضرة السادسة: بوادر المقارنة في الأدب العربي:
يستدعي
الحديث عن المقارنة في الأدب العربي الوقوف عنـــــــــــــــــد مجموعــــــــــــــــــــــــــــــــــــة من المصطلحات التي غالبا ما تلتبس مع مفهوم هذا العلم
الجديد بسبب حضور فكرة التأثر والتأثير في عديد الدراسات النقدية القديمة أولا،
وقيام أنواع من المقبلات بين نصوص وقع بينها تشابـــــــــــــــه أو تلاقــــــــــــــــح
أو تفاضل.
لعل قضية
الإعجاز القرآني قد كان لها الدور الأكبر في فرض نوع من ( المحاكاة) امتد حضورها
في الإنتاج الأدبي العربي لقرون طويلة، فكان القسط الأوفر منه يسيــــــــــــــــــــر
في اتجاه تَمَثُّل صور الكمال في لفظ الآيات ومعانيها وتوجيهاتها، ثم جاء توسع
حدود الدولة الإسلامية ليفرض نوعا آخر من المبادلات بين الأدب العربي والآداب
الهندية والفارسية والرومانية، ظهرت نتائجها في صورة أعمال كان لها تأثيرها العميق
في توجهات الإيداع العربي، بل أن آثارها امتــدت إلى الأوربيين، ونقصد بالذكر هنا
تلك الأعمال القصصية الخالدة مثل (كليلة ودمنة)، (ألف ليلة وليلة) و(قصة
السندباد)، التي انتقلت إلى اللغات الأوربية عن طريق الترجمة. والحديث عن حركة
الترجمة يقودنا حتما إلى التذكير بالفكر الفلسفي الوافد على العرب من روما
واليونان، وتثمين الاحتكاك المثمر بين الشعر العربي وشعر التروبادور في الأندلس،
فبفضله حدث في أوربا ذلك " التغيّـــــــــــــــــر في الذوق الاجتماعي الذي
أضحى يقدس الحبّ " ([1]
)
غير أن صور
المحاكاة تلك، وذلك الكم الهائل من المبادلات التي حدثت بين الأدب العربي والآداب
الأجنبية، لم يوجه النقد العربي نحو التاريخ لتلك الصلات المثمرة، ولم تتعهد جهود
النقاد العرب حدود تلك المقارنات والموازنات التي تعرضت لأنموذجيـن أدبيّيــــــــــــــــــــــــــــــــــن
من قومية واحدة ولغة واحدة " كالموازنة بين الطائيين" للآمدي. وهي
موازنات " أقل خصبا وأضيق مجالاً وأهوَن فائدة من الدراسات المقارنة" ([2]) ،
ذلك أنها تكشف مظاهر نمو الإبداع وتطوره في إطار زماني ومكاني محدود، ولا تنفتح
آفاقها على روية الإبداع في أبعاده الإنسانية العالمية، وكيف أسهم في إثراء الرصيد
الأدبي للبشرية، إما بالأخذ من بعضه لإعادة صياغته في صور جديدة، أو بإثرائه
بنماذج جديدة تزيده غنى.
وتصنف في باب
الموازنة أيضا تلك الإشارات النقدية إلى قضية السرقات الأدبية التي شغل الحديث
عنها حيـزًا كبيـرا من نقدنا القديم، دون أن تثمر نتيجة أكبر من مفاضلات منحت
السبق لأديب دون آخر في إطـــار بلاغي منغلق، دون أن تطرق باب ذلك الكم الكبير من
المبادلات الفلسفية والأدبية بين العرب وغيرهم، فقد تأجـل ظهور بوادر المقــارنة
في الأدب العربي إلى غاية عصر النهضة حين
مدّت الرحلات والبعثات العلمية والترجمة جسور
الصلات بين الأدبين العربي والأوربي، فأثمر التلاقي بينهما أولى طلائع
المقارنة أمثال رافع رفاعة الطهطاوي، علي مبارك، أديب إسحاق، نجيب الحداد، روحي الخالدي
وسليمان البستاني، وسنكتفي بذكر نماذج قليلة من هؤلاء.
تشير الدراسات
إلى أن أول ظهور لمصطلح الأدب المقارن في الأدب العربي كان سنة 1936 لدى كل من
خليل هنداوي وفخري أبو السعود في مجلة الرسالة، أين نشر هذا الأخير مقالة بعنوان:
(في الأدب المقارن: الأثر الأجنبي في الأدبين العربي والإنجليزي). وقد انصرف في كل
كتاباته لمعالجة صور التشابه والاختلاف بين الأدبين دون الالتفـــــــــــــــــات
إلى توضيح مفهوم المقارنة أو تحديد موضوعها وعلاقتها بقضية التأثر والتأثير، وربما
كان ذلك السلوك مقصودا منه، فقد أظهر فخري أبو السعود ميلا واضحا إلى المنهج
الأمريكي بأبعاده الإنسانية المتحررة. ([3])
ومن أحدث الجمعيات العربية التي عنيت بشؤون الأدب
المقارن، الجمعية الجزائرية التي تأسست سنة 1964، وكانت لها مجلة سنوية (كراسات
جزائرية للأدب المقارن)، وكذا الجمعية اليابانية وجمعية كوريا الجنوبية " ([4] ) .
1-
رافع رفاعة الطهطاوي ( 1801 – 1873):
أديب مصري سافر في بعثة
علمية إلى فرنسا عام 1826 دامت خمس سنوات، ألف خلالها " تخليص الإبريز في
تلخيص باريز" ، فجاء " موسوعة في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية والثقافية في فرنسا" ص 27، واعتمد في ذلك منهجا قائما على مقابلة
مشاهداته بصور الحيـاة العربية ليخلص في الغالب إلى إصدار حكم تفاصلي، ففي الجزء
الذي أفرد فيه الحديث عن " لسان أهل باريس" يفيض في مدح لغة الفرنسيين
مؤكدا على سعة معجمها وكثرة كلماتها التي لم تنتـج عن تلاعب بالألفاظ أو عن ترادف
أو محسّنات لفظيــة بل هو ثراء حقيقي يعكس سعة اللغة، مستشهدا بعدم استحسان الفرنسيين
للتورية والجناس. (ينظر ص: 26- 27).
ويمضي في حديثه عن تميز الفرنسية بكونها
لغة نثر، والنثر هو " لسان العلوم والتاريخ والمعاملات والمراسلات ونحو
ذلك" (ص28)، بينما تتميز اللغة العربية بالسجع وبكونها لغة شعر، بدليل كثرة
العلوم المنظومة شعرا فيها. ويثير الطهطــاوي في غمار حديثه عن الأساطير اليونانية
القديمة قضية وثيقة الصلة بالأدب المقارن في مفهومه الفرنسي التاريخي القائم على
فكرة التأثر والتأثير، إذ نبّه بوضوح إلى " قيام الأدب الفرنسي الحديث –
ونضيف الأدب الأوربي الحديث كله – على التراث اليوناني القديم " (ص 33)، ثم
عمـــــــــــــــد إلى إجراء مقارنة بين الأساطير العربية والأساطير اليونانية
القديمة. "وهكذا نجد الطهطاوي قد ضرب بسهمه في "المقارنة" حتى قبـــل
أن ينشأ العلم نفسه في أخريات القرن الذي كتب في أوائله" (ص 36).
وإن كانت مقارناته قد نأت عن القضية
الجوهرية في الأدب المقارن، وهي ( التأثر والتأثير) أو (المبادلات) بين أدبين
قوميين، واكتفت بمقابلة الظواهر بعضها ببعض والمفاضلة بين هذا الأدب وذاك. فإن ذلك
لا يقلل من قيمة كتاب الطهطاوي الذي طرق فيه أبواب المقارنة قبل ميلادها عند الغرب،
وقبل أن تتأسس للعلم الجديد قواعده الأولى، مما يبرر مزجه بين المناهج، وعدم
التزامه بالتاريخي وحده. ثم إن قيمة مجهـــوده تكمُــــــــــــــــــــــــن _من
وجهة نظر مقارنة _ في فتح نافذة يطل منها
العرب على فكر غير فكرهم ونمط حياة غير حياتهم.
ومما يحسب
للطهطاوي، فضلا عن مزية السبق، إحاطته الواسعة بالثقافتين العربية والفرنسية لغة
وأدبا وعادات وتاريخا، وذلك واحد مــــــــن شروط المقارني الساعي إلى تأصيل
الظواهر الأدبية وتفسيرها بدل الوقوف عند حدود الإحصاء والوصف الخارجي.
2 – يعقوب صروف: لبناني، أسس مجلة شهيرة
(المقتطف)، نشر فيها ثلاث مقالات متتالية في أفريل، ماي، وجوان تحت عنوان: (شذور
الإبريز في نوابغ العرب والإنجليز)، فيهما مقابلات بين شخصيتين، واحدة عربية وأخرى إنجليزية:
صلاح الدين الأيوبي/ ريتشارد قلب الأسد، أبو العلاء المعري/ جون ميلتون، ابن خلدون
وسبنسر)، انتهج في المقابلتين الأخيرتين منهجا واحدا قوامه: ذكر سيرة الرجلين،
حياتهما وأعمالهما، المقارنة بينهمـــــــــــــــــــــــــــــــا من حيث الشخصيــــــة
والأعمال والنشاط. وركز في عمله هذا على المقابلة
دون أن يبحث في قضية التأثر والتأثير.
[3] ) _ ينظر: حيدر محمد غيلان، الأدب
المقارن ودور الأنساق الثقافية، مجلة دراسات يمنية، مركز البحوث والدراسات اليمني،
صنعاء، اليمن، ع 80، 2017، ص 81 - 86، (مقالة).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire